إنّ كل مجتمع يعيش ظروفا سياسية وإقتصادية واجتماعية غير مريحة إلا ويطمح لتغيير أوضاعه حسب ما يراه أفضل وأنجع، هو صاحب حق مشروع في الطموح للعيش الكريم والحياة الأفضل والشيخوخة غير القلقة. لكنّ هذا الطموح الطبيعي والسليم تشوبه عوائق ذاتية مرتبطة بثقافة تقليدية ولّدت، في مجتمعنا، عقلية محافظة شاذة ترفض كل منظور من زاوية علمية خالصة لكونه يزعزع بنيان الفكر الفلكلوري الهش المرتكز على ثوابت سرابية من إبداع المخيلة الشعبية. فهذا الفكر الشاذ المؤمن بامتلاكه الحقيقة المطلقة شوّه مفهوم الإصلاح وحوّله من تغيير إلى ترميم إيمانا منه بسلامة الثوابت وشذوذ الفروع. وقد غفل هذا الفكر، للأسف الشديد، أنّ تلك الثوابت إنما هي عماد الإقطاعية ووسيلتها في استضعاف جماهيرنا وتكبيلها. كما أنّ هذا الفكر لم ينتبه إلى السلطان الذي يلعب، في المجتمع المغربي، دور الأسد مع الثيران الثلاثة حيث يزكي ويدعم أصحاب الفكر الشاذ و يضطهد ويقمع رجال الفكر العلمي والمنطق الحضاري ويطاردهم في كل مكان داخل حدود الدولة وخارجها كما سبق وحصل مع الرجل الفذ العظيم ابن الجماهير الكادحة المخلص ونعني الشهيد البطل المهدي بن بركة الذي ذهب ضحية لمؤامرات أعداء الشعب المغربي وأذيال الاستعمار الإقطاعيين خصوم الديمقراطية والاستقلال الفعلي. فاغتيال هذا البطل العظيم إنما هو كان بمثابة محاولة لإقبار الحركة الوطنية المغربية الساعية لإصلاح حقيقي في نظام جهاز الدولة. وقد شارك في هذه المحاولة اليسار المغربي، بأحزابه وتنظيماته ومثقفيه، بتنحيه عن نهج الإصلاح وتبنيه مذهب الترميم، حيث رضي بالدور الاستشاري لمؤسسة المجلس التشريعي كما وافق على دور الدمى المتحركة للحكومات المتعاقبة على كاهل الشعب المغربي. رغم أنّ الإصلاح يعني أن تزيل ما فسد وتستبدله بما هو صالح نافع أي أن تحدث تغييرا في الهيكلة على جميع المستويات السياسية والإقتصادية والاجتماعية والثقافية. لأنّ الإصلاح يعني منح المجلس التشريعي، بغرفتيه، سلطة حقيقية وإعتاقه من الوصاية والتبعية بالشكل الذي ينقله من هيأة استشارية إلى تشريعية فعلية. ومن ضمن مفهوم الإصلاح جعل الحكومة ذات مشروعية شعبية وبالتالي ذات استقلالية وسيادة في قراراتها مما يجعلها مسئولة عن برامجها أمام ممثلي الشعب الفعليين. كما يعني الإصلاح أيضا مناهضة العقلية الطبقية وتقليص الهوة بين المحظوظين والأقل حظا منهم في الحياة الاجتماعية والعمل على توفير مناصب شغل للعاطلين ومحاربة أسباب الآفات الاجتماعية، من فساد ودعارة وتعاطي المخدرات..إلخ، وليس الاقتصار على أعراضها. إنّ الإصلاح يعني إعطاء الحقوق الثقافية للأغلبية في المجتمع وليس جعلها مادة فلكلورية استهلاكية للسائح الأجنبي إذ أنّ المغرب ليس حديقة حياوانات والمغاربة ليسوا قردة. هذا هو الإصلاح الحقيقي، الذي قدم البطل العظيم المهدي بن بركة حياته ثمنا له (فهل تذهب تضحيته هباءا منثورا؟)، وليس ما يقوم به النظام المغربي من تغيير وزير بآخر وحكومة بأخرى أو ما يقدمه من حين لآخر من بعض التنازلات الطفيفة بعدما يروج لها الإعلام الرسمي على أنها هبة سامية. فما يقوم به هذا النظام إنما هو ترميم لوجه الدولة أمام المجتمع الدولي والوطني وليس أكثر ما دام هيكل البنيان هرمي إقطاعي بامتياز. إنّ استراتيجية الإصلاح هي جعل الدولة في خدمة الشعب وملكا له وليس العكس أي أن يصبح المواطن سيدا في بلده ووطنه يشارك في اتخاذ القرارات ويساهم في بناء مجتمعه على النحو الذي يريده ويراه لائقا بمحض إرادته دون توصية خارجية أو إكراه داخلي. إنّه الحق المشروع في تقرير مصيرها المتفق عليه دوليا. ختاما أقول أنّ قصة الأسد والثيران الثلاثة ذات مغزى عميق يفضح سياسة فرّق تسد المقنّعة ببلدنا تحت غطاء التعددية الحزبية. فقد تمكن الأسد من افتراسهم الواحد تلو الآخر بعدما فرق بينهما وحرضهم على بعضهم البعض. فهل من أولي الألباب يفقهون؟