لم يكن ظهور الانخفاض الكبير لنسبة رجال الدين في فرنسا عقب ثورتها، و خصوصاً بعد اتخاذ قرار برفع يد الكنيسة عن مقاليد وشؤون الدولة في مطلع القرن العشرين، أمراً عفوياً ومن باب الصدفة. لكنه كان نتيجة لتحديد دور رجال الدين، والكنيسة الغارقة لأخمص قدميها في التعامل مع الاقطاع والملكية آنذاك، وبالتالي اضمحلال و زوال الاستغلال الديني، والمنصب الروحي لمقدرات الدولة و حرية الناس وخيراتهم. فانخفاض عدد رجال الدين آنذاك كان دليل واضح و فاضح على خداع و ثنائية وجوه الكثيرين من رجال الدين من جهة، كما ويدل من وجهة أخرى وبشكل عام على صدق قلة قليلة من رجال الدين وإخلاصها الوطني(والتي نحترمها ونقدّرها)، ووعيها بمفهوم الدين، ماهيته، هدفه، ودوره في حياة الإنسان. هذه القلة التي تترفع عن حياة الزعامة والمال، وأضواء الشهرة وعن كل ما يتنافى و رسالة الدين الموجهة لسعادة الإنسان و راحته النفسية. هذه العُجالة التمهيدية هي للإشارة إلى بروز ظاهرة رجال و علماء الدين وكثرة عددهم وعديدهم في مجتمعات العالم العربي، والمشكلة هي في ما يقوم به أكثرهم وما يُصرحون به بين الحين والآخر، والمشاكل والنزاعات التي تحدث عقب حديثهم وأفعالهم. نأخذ نموذجاً من لبنان، على سبيل المثال وليس الحصر، للتدليل على كذب وتفاهات و زعرنة الكثير منهم. ودورهم في التفسخ الاجتماعي والتكريس الطائفي والتعزيز المذهبي، أي دورهم في الانحلال الاجتماعي وتنمية شعور الولاء المذهبي ليطغى عل قدسية الوطن والمواطنة وليفوق قدسية الأرض وإن ادّعوا غير ذلك. وكل ذلك فقط إرضاءً لأهوائهم الشخصية ونزعتهم العصبية الجاهلية. حيث ما قام به مؤخراً المعروف بالشيخ محمد عبد الفتاح المجذوب، وهو المتخرج من أزهر البقاع (جريدة الأخبار السبت 30 كانون الثاني 2010 ، الاربعاء 3 شباط 2010 – جريدة القدس العربي02/02/2010 )، والممارس لزعرنته في مجدل عنجر، وغيرها من قرى البقاع، يشير ويؤكد على عدم مصداقية و تفاهات الكثير ممن يستغل هذا اللباس الديني على مر التاريخ. وهذا المثال هو غيض من فيض لهذا الاستغلال على مر الأزمنة، فطبعاً هذه الحركات ليست غريبة و ليست وليدة اليوم و هي بارزة في التاريخ، وإن اختلفت الطريقة والمنهج، حيث يفيض تاريخ العالم العربي بهذه الممارسات الرديئة والتي برزت جليّاً خلال الحقبة الأموية وكذلك العباسية والعثمانية وما زالت مستمرة إلى الآن، وليس هذا فقط وإنما أصبحت هذه الممارسات مثل يُقتدى ويُحتذى به من قبل الكثيرين من رجال وعلماء الدين . هذا وبالرغم من محاولة الكثيرين (مؤلفين ومؤرخين) من ذوي النزعة العصبية الدينية التستر على الكثير من هذه الممارسات، و محاولة إعطاء قسم منها جمالية ونكهة معينة وبالتالي مصداقية، إلا أنها مفضوحة بانحلاليتها الأخلاقية لمن ينظر إليها بتجرد وموضوعية. وبالرغم من تأكيدنا على ابتعاد ما جرى ويجري عن المفهوم الديني الصحيح و تأكيدنا على الدين كعامل في سبيل تهذيب وراحة وسعادة النفس البشرية، نؤكد من جهة ثانية على مهزلة ما جرى ويجري من قبل من يُسمون أنفسهم " برجال وعلماء الدين ". وانطلاقاً من أهمية هذا الحدث وأحداث وممارسات مماثلة وانعكاساتها، التي تعم مجتمعات العالم العربي عموماً ومجتمع الهلال الخصيب خصوصاً، حيث القليل القليل منها معروف، والبعض منها مستور، والأكثر من ذلك مجهول. حيث تنتشر هذه الممارسات بالدرجة الأولى في كل من لبنان، والعراق، وتلقى دعماً من كل من السعودية ومصر التي بدورهما لا تغيب فيهما هذه الممارسات. نأتي نحن هنا لنستفيد مما حدث، مبتعدين عن أبواق الطائفية والمذهبية المستغلة لما جرى، ومتمسكين بحياة اجتماعية واحدة في مجتمع واحد، لنستخلص النتائج والعبر ولنؤكد ونوضح ونشيرإلى نقاط عدة يمكن لأي عاقل أن يستدل عليها من خلال اطّلاعه على ما جرى ويجري حوله من تلك الممارسات السيئة التي يعتنقها الكثير ممن يُعرّفون أنفسهم ب "رجال وعلماء الدين". وهي التالي: · تلازم مساري الكثير ممن يُسمون ب "رجال وعلماء الدين" من جهة، و السياسيين غير الوطنيين من جهة أخرى. وكثيراً ما يلتقون إما في المناسبات الدينية في أماكن و دور العبادة، وذلك لدعم السلطة الدينية من قبل السياسي أمام الناس، والتأكيد على نفوذ رجال وعلماء الدين (الحاضرين) في الدولة، وتعزيز فكرة أنّ أخذ الرضى منهم هو رضى للسلطة السياسية، ولا نعمة بغير ذلك. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى يكون اللقاء في هذه الأماكن الدينية لإظهار الخشوع والتواضع للسياسيين وبراءتهم. وطبعاً يكون ذلك أمام السذّج من الناس. أو أنهم يلتقون في قصور ومنازل السياسيين لتأكيد دعمهم الروحي (الإلهي !؟) للسياسيين، وأنّ الواجب الديني والالهي يفرض عليهم وعلى من يتبعهم القيام بذلك. و نكرر أنّ ذلك يحدث للسذّج من الشعب أيضاً. يعني بشكل عام يمكننا القول أنّ، السياسي غير الوطني ورجل الدين المدّعي، يعتمد كلاً منهما على الآخر وصولاً لتحقيق مصالح كليهما ((المصالح الوطنية .. والقومية العليا !؟!؟؟!؟!)). · انجرار الكثير من الناس وراء منتحلي صفة رجال وعلماء الدين من دون وعي و إدراك لما يتبناه هؤلاء الرجال والعلماء، أي اتّباعهم بغض النظر عن أفعالهم... لا والمحزن أكثر من ذلك هو تبرير الأفعال والممارسات الخاطئة لهم، عوضاً عن صدها ومواجهتها. لقد انعدمت أو بالأحرى تُحرّم المساءلة والنقاش معهم، ويكتفي التابع (الفرد) فقط بالإصغاء وتنفيذ مايُملى عليه، قناعة منه أنّه يُنفّذ أمراً إلهياً، ويحقق مشيئة الله، حيث الوسيط فيها رجل وعالم الدين هذا، الذي نمّا هذا الفرد على هذه الأفكار مع سنوات الطفولة الأولى (المرحلة الأكثر أثراً في حياة الفرد). أي يمكننا القول بشكل عام أنّ هذا التصرف من قبل الأفراد (التابعين) هو تأكيد لحالة القطعان البشرية التي كثر انتشارها في عالمنا العربي. ونتأسف ونحزن لهذه الظاهرة طبعاً. · كل الحروب الأهلية هي عن سابق اصرار وتصميم، كلاً من مدّعي وتجار الدين من جهة، ومن يُسمون أنفسهم سياسيين من جهة ثانية. أي أنّ هناك تنسيق تام بينهما لإشعال هذه الحروب وتغذيتها بما يتناسب في النهاية ومصالحهم الشخصية الزعامية والسلطوية والمالية المبطّنة عادةً والمخفية عن الشعب، والظاهرة غالباً مستترة إما بغطاء الوطنية، أو بغطاء حفظ النوع (الديني). · التعزيز و التكريس الطائفي و المذهبي هو الهدف الأسمى لمدّعي الدين. وكل مجتمع تزداد وتنتعش فيه الطائفية والمذهبية، يدل حتماً على نشاط خفي أو معلن لمن يُسموا برجال وعلماء الدين، وانتقال وتحرك سريع ومستمر لهم بين كل من التابع (الفرد) والسياسي غير الوطني، لضبط الايقاع بما يتناسب مع النغمة الشخصية المرجوة. حيث أنّ استمرار الطائفية والمذهبية هو استمرار لسلطتهم وزعامتهم، ودخلهم المادي اللامحدود. وإلا ماذا سيفعل رجال وعلماء الدين (المدّعيين) في مجتمع بدون طوائف ومذاهب ؟؟؟ · المتيقظ الأول والمدرك جيداً لحقيقة هؤلاء الزعران من رجال وعلماء الدين ودورهم في التجييش والتهييج الشعبي، وشحن الناس واغوائها، هم السياسيين (غير الوطنيين طبعاً)، لذلك نرى تحت كل إبط سياسي منهم لحية متدلية (مع احترامنا البالغ وتقديرنا الكبير لكل اللحى التي تستحق الاحترام والتقدير .. وكم هي قليلة)، حيث لم يتباطئ هؤلاء السياسيين في استغلالهم واستخدامهم لتنفيذ مآربهم الشخصية، وبمعرفتهم طبعاً، وعلى قلبهم أحب من العسل. · لا يصح إطلاق تسمية: نهضة دولة، مجتمع متحضّر، مجتمع متمدّن وراقي بوجود حكم الطوائف، المذاهب، والعشائر. ولا يمكن حتى التفكير و لا حتى الحلم بسيادة دولة مع هذه المجموعة من الخزعبلات المنسوبة للدين والله (تعالى).