مشكل الأمهات العازبات في المغرب ليس وليد اليوم أو ظهر إلى حيز الوجود على حين غرة كما يعتقد كثيرون، بل عرفه المجتمع المغربي منذ زمن ليس بالهين، رغم مظاهر الاحتشام والوقار التي كانت سائدة آنذاك. وقد زادت ظروف اقتصادية واجتماعية ترتبط بالأساس بالفقر والجهل في استفحال الظاهرة وزيادة الأمور تعقيدا، مما دفع الأطراف المعنية، الأم العازبة والأب الطبيعي على حد سواء، إلى محاولة الظهور بمظهر الضحية والعمل على إبراء ذمته من ثقل المسؤولية. لكن من يكتوي بنار الظاهرة ويعاني الأمرين بسببها هم الأمهات اللائي ضاقت بهن السبل وناءت بهن الحيل، وأضحين يواجهن مصيرهن وحدهن. + الأمهات العازبات في المغرب.. أصل الحكاية + تقول السيدة عائشة الشنا، رئيسة جمعية التضامن النسوي وأحد أقدم المساعدات الاجتماعيات اللائي عرفهن المغرب على مدار تاريخه، إن الأمهات العازبات الأوليات كن من صنف خادمات البيوت أو ما كنا نسميه في ذلك الإبان ''المتعلمات" اللواتي كن يساعدن العائلات في تهذيب وتوضيب أمور المنزل، وكن في منزلة بنات العائلة الأصليات، ويحظين كما هن بالقدر نفسه من الرعاية والاهتمام. ولم يسلم من هذه الظاهرة حينئذ، تضيف السيدة الشنا، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، الفتيات اللائي كن يرفلن في بحبوحة من العيش وينتسبن إلى عائلات كبيرة، لكن ما ميز تلك الحقبة من الزمن هو التلاحم والتضامن الذي كان سائدا وسط العائلات المغربية، وبالأخص المصارحة بين أفراد العائلة نفسها الذي كان تقليدا سائرا درجت عليه العائلات أبا عن جد. وتوضح السيد الشنا أنه لهذا الغرض كانت العائلات تسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى تذليل الصعاب وتضحي بالغالي والنفيس من أجل إيجاد مخرج يقي العائلة شر القيل والقال، بالعمل على عقد زيجات لمرتكبي "المعصية"، والسعي إلى إصلاح ذات بينهما، وإيجاد مخرج للطفل الناشئ عن هذه العلاقة إن لم تكلل مساعيهم بالنجاح. وأبرزت رئيسة جمعية التضامن النسوي، بهذا الخصوص، أن العائلات المغربية الأصيلة كانت تنظر إلى الطفل الناشئ عن العلاقة "غير الشرعية"، نظرة ملؤها الحنان والصبابة والحب، وتخاله "هبة من الله" إليها وإلى الناس، مسجلة أن مصطلحات من قبيل لقيط" و"ابن زنا" و "ابن حرام" لم تكن تجد إلى ألسنة أرباب وسيدات العائلات المغربية الأصيلة سبيلا. + الأمهات العازبات اليوم.. غدر الأمومة في عز المراهقة + لم يخطر ببال إحداهن أن تقع في يوم من الأيام في شراك وحش آدمي لا يخاف في الله لومة لائم، داس كل القيم ورمى بعرض الحائط كل الأعراف والتقاليد فأوقعها في ما لا يحمد عقباه، تقول السيدة عائشة الشنا بكل حزن وأسى. وترى السيدة الشنا أن ظاهرة الأمهات العازبات نتاج علاقة "غير شرعية" بين شابة وشاب، يفلح خلالها الشاب في التغرير بالفتاة وإطرائها بما يهواه قلبها وتستطيبه نفسها، ويشنف أسماعها بما لذ وطاب من صنوف وألوان الكلام المعسول المصفى، والوعود الخادعة الزائفة فتقع في شراكه .. ويقضي منها وطرا. وتعتبر السيدة الشنا، التي بفضلها رأت جمعية التضامن النسوي النور سنة 1985 ، أن الظروف الاجتماعية القاسية وانعدام الحديث بين أفراد العائلة حول الأخطار المحدقة لمسائل الجنس، إضافة إلى التشتت الأسري والتفكك الاجتماعي الذين ترزح تحتهما شرائح عديدة من المجتمع المغربي، تدفع بعض الفتيات، طوعا أو كرها، إلى البحث عمن يعتقدن أنه "طوق نجاة"، فيقعن بسهولة متناهية في مصيدة من يبيعون الوهم في وضح النهار، ويخلن أنفسهن نجين من "الهم" و"الغم" الذي جثم على صدورهن، خصوصا خادمات البيوت اللائي بمجرد ما يبلغن مراهقات، تحذوهن الرغبة في الخلاص من جحيم ما قاسينه من معاناة وذقن مرارته من قهر وتسلط واستبداد، فيرتمين في أحضان أول طارق بابهن أملا في حياة أفضل.. فينتهي بهن المطاف مغتصبات، ويصرن نسيا منسيا. كما يتحمل نصيبا وافرا من المسؤولية، تضيف السيد الشنا، عدد من العائلات التي تضع عراقيل جمة في وجه أبنائها الراغبين في الزواج أو المتقدمين إلى خطبة بناتها، لا يبتغون من وراء ذلك سوى الإحصان وتكثير سواد الأمة، باشتراط مهور لا قبل للمتقدمين للخطبة بها، والوقوف عند سفاسف لا طائلة من ورائها، وضرب رغبات وقناعات أبنائها وبناتها بعرض الحائط. وشددت السيدة الشنا على أنه " ينبغي عدم تحميل الرجل الوزر كله واتهامه ظلما وعدوانا بالوقوف وحده وراء هذا الفعل "المشين"، مشيرة إلى أنه يتعين، من باب إعطاء كل ذي حق حقه، القول إن كثيرا من النساء والشابات يتحملن المسؤولية كاملة في ما جرى لهن، لأنهن "رغبن عن طيب خاطر في الثقة بالشاب واتباع هواه ونزواته والانخداع بكلامه، ويعتبرن أنفسهن حرات ولسن في حاجة إلى من يبين لهن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بل منهن من يرين أن لا شأن للمجتمع بهن، ويعلن، جهارا نهارا، رغبتهن في أن يصرن أمهات، ولو كان ذلك خارج إطار مؤسسة الزواج". وضربت السيدة الشنا مثلا على ذلك بحالات لخادمات بيوت تجاوز عمرهن 30 سنة اعترفن، خلال جلسات مطولة جمعتها بهن، بأنه كانت تحذوهن رغبة جارفة في أن يصرن أمهات، وأقررن أنهن انخدعن عن طيب خاطر ولم يمارس عليهن أي شكل من أشكال العنف أو التهديد. + مصير غامض يحيط به الموت من كل جانب + الوالدان في حيرة من أمرهما والوجوه عبوس قمطريرا، لم يتجرعوا بعد مرارة الخبر الذي نزل عليهم كالصاعقة فأرداهم صرعى كأعجاز نخل خاوية، هكذا كان حال عائلة مسفيوية (آسفي) تروي السيدة الشنا حكايتها، حين تلقت خبر حمل ابنتها التي كانت على علاقة بشاب، مشيرة إلى أن الفتاة، وهي بالمناسبة حاصلة على الإجازة في السوسيولوجيا، ما أن تناهي إلى علمها أن أهلها دروا بما جرى، ضربت أخماسا في أسداس وقررت الفرار بجلدها والهروب من المنزل خوفا من أن ينزل عليها سوط الأهل، ودرء لكلام الناس والقيل والقال. واستطردت السيدة الشنا هذا الواقع الجديد دفعها، كما كثيرات مثلها، إلى ترك منزل العائلة وتولية وجهها شطر المجهول بحثا عن أي مكان تركن إليه، مما عجل بفتح باب الانحراف مشرعة في وجهها، وسهل من مأمورية عديمي الضمائر في استدراجها واستغلال ما تمر به من ظروف أبشع استغلال، وظلت على هذا الحال إلى أن وضعت مولودها، دون أن يعلم أبواها بحالها أو مكان وجودها، فألفتها جمعية التضامن النسوي ذات يوم بمحض الصدفة واستقبلتها في حالة يرثى لها. قصة مماثلة حكتها بشرى فيلالي، الباحثة في علم النفس، لقريبة لها تنحدر من مدينة صفرو كانت مستقلة إحدى الحافلات المتجهة إلى مدينة وجدة قصد زيارة عمة لها، فأغواها أحد الأشخاص واستدرجها بالحديث فأقنعها بالذهاب معه فقضى منها وطرا، ومكثت معه إلى حين وضع مولودها.. إذاك قررت التخلص منه بتسليمه لإحدى الوسيطات التي سلمته بدورها لإحدى الأسر. ومن أجل قطع دابر المشكل وتجنب الوقوع في ما لا يحمد عقباه، يؤكد الأستاذ عبد الله كديرة، رئيس المجلس العلمي لمدينة الرباط، في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أنه "لا يكفي في مسألة الأمهات العازبات معالجة عواقبها، بل يتعين أن تعد لها أسباب الوقاية التي تحمي الإناث من الوقوع في العلاقات غير السوية، من خلال التربية السليمة والتوعية المتواصلة بمخاطر الظاهرة". + أطفال برءاء يسومهم الناس سوء العذاب + ويعتبر السيد كديرة أن "هذا المخلوق الصغير البريء لا ذنب له ولا إثم عليه، وما يطلقه عليه الناس من كلام ويصدرونه في حقه من نعوت "قاسية" و "غير لائقة"، يعتبر كلاما قدحيا لا يجيزه الشرع". كما شدد رئيس المجلس العلمي المحلي للرباط على "ضرورة أن يعهد بهؤلاء الأطفال الأبرياء إلى أسرة مسلمة لها أخلاقها ولها وزنها في المجتمع، وتحوي من العلم ما هو ضروري لتربية الإنسان المسلم وتنشئته تنشئة إسلامية صالحة، كما أمر بذلك الله تعالى ورسوله عليه السلام، إلى أن يبلغ رشده وتتهيأ له السبل لكسب قوته بشرف"، مشيرا إلى إن "الزج بهؤلاء الأطفال في ملاجئ ودور أيتام لا يجدون فيها من يحنو عليهم ويمنحهم الرعاية المطلوبة، أمر لا يقبله عرف ولا شرع". أما السيدة الشنا التي تعنى بالأمهات العازبات والأطفال المتخلى عنهم، فترى أن من حق الطفل البقاء إلى جانب أمه، لأن "الأم لا تعوض" ووجودها إلى جانب ابنها "ضروري" كي تسبغ عليه مما حباها الله به من حنان ورعاية. وأشارت في هذا الصدد إلى أن الجمعية التي تشرف عليها أولت اهتماما كبيرا بهذا الجانب فقررت لم الأمهات وأبنائهن، مبرزة أنه يحز في نفسها أن ترى أطفالا يرمى بهم في القمامات وعلى جنبات الطرقات، ويزج بهم في الملاجئ ودور الأيتام رغم أنهم ليسوا أيتاما، لافتة في هذا السياق، الانتباه إلى أن عدد هؤلاء الأطفال بلغ، بمدينة الدارالبيضاء وحدها، استنادا إلى أرقام مؤسسة التعاون الوطني، 6480 طفل متخلى عنه سنة 2008. وشددت السيدة الشنا التي أفنت 50 سنة من عمرها في الذود عن قضية الأطفال المتخلى عنهم وسلطت عليها الضوء في محافل وطنية ودولية عديدة، وحازت العديد من جوائز الوطنية والدولية المرموقة اعترافا بما قدمته من تضحيات وأسدته من خدمات جسام في هذا المجال، على أنه "لا يجب أخذ الطفل بجريرة والديه وسومه سوء العذاب"، معتبرة أن ما ينعت به من مصطلحات من قبيل "لقيط" و"ابن زنا" و "ابن حرام" فيه كثير من التجني وينطوي على حمولات خطيرة لا يحمد عقباها. وقالت إن جل الأطفال الذين يتربون في كنف جمعية التضامن النسوي أذكياء ومتفوقون في دراستهم، ونال كثير منهم شهادتي البكالوريا والإجازة بامتياز، بل منهم من صار طبيبا ومهندسا مشهودا له بالكفاءة، عازية هذا المعطى إلى كون هؤلاء الأطفال ومن على شاكلتهم "حاربوا من أجل البقاء"، و"ذاقوا ويلات الفقر والحرمان"، عكس الأطفال الطبيعيين الذين حفهم آباؤهم وأمهاتهم بالعناية اللازمة، وبالتالي يسعون إلى إثبات ذواتهم داخل المجتمع وتوجيه رسالة قوية إلى كل من انتقص من قدرهم وساوره شك تجاههم. + قبل فوات الأوان + يرى السيد كديرة أنه من الأهمية بمكان تشجيع ما تقوم به الجمعيات التي تعنى بالأمهات العازبات والأطفال المتخلى عنهم، معتبرا ذلك عملا إنسانيا يتغيى التخفيف من آثار الظاهرة وتجنيب الأطفال والأمهات مخاطر الاستجداء والانحراف عن جادة الصواب. وتعتقد السيدة الشنا، من جهتها، أنه في حال تم تلافي دواعي التفكك الأسري واضطلع الأبوان بمسؤوليتهما كاملة في توجيه فلذات أكبادهم و تقديم الإرشاد اللازم لهم وتوعيتهم بأمور الجنس والمخاطر الناجمة عن نسج علاقات "غير شرعية"، وتم اعتماد المصارحة والتحاور ثقافة أسرية، ستربأ الأسر المغربية بنفسها عن هذا الخطر الداهم وتتلافى الأجيال القادمة شره المستطير. واقترحت رئيسة جمعية التضامن النسوي، بهذا الخصوص، إحداث "مركز للإنصات السوسيولوجي للأطفال المتخلى عنهم" يتغيى الإنصات لهموم هذه الفئة والوقوف على انتظاراتها والسعي إلى إدماجها الفعلي داخل المجتمع، حتى لا يجد بعض هؤلاء الأطفال، ممن تعرضوا للازدراء وسامهم الناس سوء العذاب، إلى الانتقام سبيلا.