أعلن مؤخرا الدكتور أحمد بن بيتور أول رئيس حكومة لنظام بوتفليقة مذ اعتلى هذا الأخير سُدة الحكم عام 1999 من القرن الماضي، ترشحه لرئاسة 2014 في مبادرة وُصفت من قبل العديد من الجهات بالجريئة وتكاد تعيد إلى الاذهان تجربة الصراع الانتخابي الذي حصل بين الرئيس بوتفليقة وأحد رجالاته وثاني رئيس حكوماته ونقصد به هنا علي بن فليس انتهى بانتصار الرئيس واندحار بن فليس بشكل نهائي من المسرح السياسي الجزائري. بيد أنه ثمة فوارق بين لحظتي الصراع، ففي تجربة التحدي الانتخابي الذي أعلنه بن فليس ضد الرئيس عام 2004 كان هذا الأخير لا يزال يحتفظ بشيء من عنفوان سلطته، ويحظى بهدير جارف لشعبيته ويتمتع بمستوى عال من سلامة صحته، ومحميا ببيئة إقليمية مساعدة على بقائه، في حين ومع تلاشي كل تلك العناصر تبدو قدرة أحمد بن بيتور على المناورة والمغامرة كبيرة لكن من دون الحسم والجزم في قدرته على كسبها، لأسباب عدة بعضها موضوعي مرتبط بمستوى الوعي الشعبي في التغيير، والبعض الآخر سياسي يتعلق بطبيعة سير منظومة الحكم بالجزائر المتغيرة في إطار الثبات كما سنرى عبر هذا المقال. بن بيتور السياسي العارف في بيئة الحكم بالعنف تقتضي حاجتنا لفهم طبيعة مبادرة الدكتور أحمد بن بيتور في دخول السباق الرئاسي، أن نعرف أولا طبيعة التكوين السياسي لهاته الشخصية التقنوقراطية ومدى قدرتها على استيعاب تناقضات الصراع حول السلطة في الجزائر الذي يختلف تماما عن أي من الصراعات داخل النظم في العالم العربي بوصفه يقوم على قواعد غير سياسية في عمقها ومضمونها كون السياسة معطلة بشكل مضمر وبأدوات سياسية مع الأسف وهو ربما ما صعب على الكثيرين فهم الظاهرة السياسة الجزائرية من الداخل. فالسيد أحمد بن بيتور 66 سنة هو اقتصادي التكوين، علمي المنزع، رياضي (الرياضيات) المنشأ وهي كلها صفات غريبة عن حقل السياسة في الجزائر، وأغرب ما تكون لنظام قطري تأسس لعد الاستقلال وفق الأداة الأمنية ببعدها العنفي، ولا يزال يشكل قطب الرحى في صراع الشرعية السلطوية بالجزائر خلف آليات السياسة، طبيعة تكوين هاته الشخصية جعلتها تتخبط فيما بين إرادات متطاحنة داخل السرايا حول السطوة والحظوة بعيدا عن منطق الدولة بمفهومه السياسي في ظل غياب منطق السياسة بوصفه الفضاء الطبيعي لعمل الطبقة السياسية. البعد العلمي والحل العملي للأزمة بمنظار بن بيتور في معرض نقده للدولة بالجزائر وشاكلة سريانها، ينزع الدكتور بن بيتور في العادة إلى مبدأ التشخيص العلمي الذي يستهدف تعرية الواقع عبر وصفية رقمية إحصائية تُمعلم مراحل السقوط المُستشرف للدولة بسبب العجز الكلي البادي من قبل نظام يعيد انتاج نفسه وبأشكال متعددة من دون أن يبادر إلى التغيير الجذري من الداخل، إذ يرى أول رئيس حكومة جزائرية استقال طواعية من منصبه منذ الاستقلال، أن مرحلة الفساد التي تحياها الدولة الجزائرية ستقودها حتما وعلى المدى المنظور إلى مرحلة الدولة الضعيفة، التي لن تدوم بدورها طويلا لتزج بها في أخطر المراحل على الاطلاق وهي الدولة المميعة، ومن هنا ستتلاشى كل مفاصل الأمة ويصبح خطر السقوط والتشرذم الجمعي واقعا معاشا لا محالة. العاهة السياسية للمجتمع الجزائري والمتعمق في التحليل البن بيتوري لأزمة السياسة في الجزائر والتي كانت نتاج لأزمة سلطة نشأت مع بروز الدولة الأمنية ببعدها العنفي فجر الاستقلال وبعد سرقة الشرعية عنوة من الحكومة المؤقتة من طرف جيش الحدود، يسهل عليه فهم البديل الذي يقترحه كحل ولعله كان سبب استقالته من رئاسة الحكومة سنة 2001، فهو يصور السلطة في الجزائر على اساس أنها نظام إرثي يشكل فيه الرئيس قطب الرحى وتدور حوله جماعات ضاغطة كل منها يمتلك جزءا من لعبة السلطة، ويعمل على أن يظهر بذلك الجزء كما لو كان هو السلطة بذاتها وبكليتها، في حين يقع المجتمع على هامش الفضاء المشكل لهذا النظام مما يعني أن البعد الشعبي للنظام الجزائري هو وهم مشترك بين السلطة توهم نفسها والغير على انها منبثقة من الارادة الشعبية والشعب واهم أنه يمتلك نظام أو جزء منه على الأقل يعبر عن إرادته وهي حالة غريبة اضحت عاهة نفسية تصيب العقل السياسي الجزائري وتعيق مسار اندراجه في اللحظة الواعية. الريع كأداة لإطالة عمر النظام وحسب الدكتور أحمد بن بيتور فإن ديمومة النظام الجزائري رغم مأزومية واقعه وبالإضافة إلى الأداة الأمنية المستديمة فإنما تتقوى بالبعد الرئيس ألا وهو الريع النفطي الذي به تشترى الذمم وبالتالي تُقتل المعارضة الجادة، وبه تتم مواجهة حركة الاحتجاج عبر ضخ أموال النفط وإهدارها في ساحات الانتفاضات الاجتماعية مما يفوت على الاقتصاد فرص الاستفادة من مداخيل السوق النفطية في عز أريحيتها، وهذا ما جنبه مصير النظم الامنية التي تهاوت فيما يعرف بالربيع العربي مثل تونس ومصر واليمن، من هنا يمكن ملاحظة أن السياسة في الجزائر ظلت تحت رحمة الاقتصاد وليس العكس كما حول حاصل في البلدان الديمقراطية، والاقتصاد الجزائري ليس اقتصادا منتجا بل ريعيا الأمر الذي ينذر حقا بمآل متوحش للمجتمع مع دنو الثروة النفطية من النضوب في مقابل تزايد التعداد السكاني للبلاد وتقلص الطبقة الوسطى فيها. مراهنة على نخب التغيير وبحكم كون السياسة غائبة أو مغيبة في الجزائر، بسبب النهج التسلطي القائم على بعديه المالي الريعي والعنفي الأمني، فإنه لا أمل في حدوث تغيير عبر آليات السياسة المعطلة كالأحزاب السياسية والحركات الجمعوية، وهيئات المجتمع المدني لكونها واقعة كلها تحت رحمة ذاك النهج. من هنا يرى أحمد بن بيتور أن على نخب التغيير غير المنضوية تحت أي من ألوية تلك المؤسسات التي صارت مكبلة للطاقات وهو ما يفسر حالات الانشقاقات التي تعرفها العديد من مؤسساتها أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية وتنهض بدورها في الدفع بإرادة التغيير للانبساط في الواقع الجزائري لتحرير السياسة من قبضة ثنائية الريع والأمن بما يتيح للإرادة الشعبية الحقيقة و الحرة أن تتجسد في الشهد السياسي للبلد. جدية الرهان النخبوي في الحقيقة تبدو مبادرة بن بيتور على جديتها وجودتها اقرب ما تكون إلى رهان مثالي حين تتخذ من إرادة النخب التغيرية كقاعدة استثناء واستناد من أجل الانبساط في مجتمع، تسكنه عدة هواجس حالت دون التحاقه بركب التغيير هو (المجتمع) الأكثر حاجة إليها من أي من تلك الدول التي حصل فيها التغيير الثوري بشتى أساليبه، فقدرات الجزائر الطبيعية والبشرية والمالية، المعطلة بفعل هيمنة نظام يتغير داخل الثبات أي يبدل جلده على شاكلة التغيير البيولوجي للأفعى، فالنخب التغييرية بالجزائر أظهرت كم من مرة أنها نظرية وخطابية أكثر منها عملية ميدانية، وهو ما جعلها تخسر كل رهاناتها أمام حركة شراء الذمم التي تعكسها الجمعيات سريعة التشكل والانتشار لمناصرة مرشح النظام فور اخراجه للناس من ظلمة بيت القرار السياسي السري بالجزائر، ومناوأة خصومه. المجتمع والنظام.. صراع بقاء وبقاء الصراع يكاد تحليل بن بيتور لأزمة المجتمع الجزائري المتداعية عن شيخوخة نظامه ايديولوجيا وبيولوجيا يصورها على أنها مرحلة جد متقدمة من صراع البقاء المحتوم بين الطرفين، أي أن يبقى أحدهما على حساب الآخر، فمن ناحية يفقد المجتمع الجزائري الكثير من مقومات النهوض التنموي والقبض على المستقبل بسبب جموح رغبة النظام القديم الجديد في البقاء عبر بعثرة ممنهجة لقدراته وتشتيت وإهدار لأهم عوامل النجاح وهو الزمن، ومن ناحية أخرى يعمل النظام عبر آليات الدعاية الاعلامية والقبضة الامنية والإغراء الريعي الاستمرار في انوجاده وتواجده على حساب المصير الجمعي الذي يشكل ويتشكل من إرادة الأمة، خطورة المشهد هذا تجعل الجزائريين أمام حتمية الارتفاع إلى مستوى فهم الأحداث، أن يعوا حقائق الأمور قبل أن يقعوا في شر مآلاتها.