الذهاب إلى تيفنتورين ليس عملا صحفيا وحسب، الهدف منه التقاط صور ونقل شهادات عمال وقعوا رهائن لجماعات إرهابية مدة ثلاثة أيام، بل هي مغامرة اتفق الصحفيون الذين قارب عددهم ال155 من جنسيات جزائرية وأجنبية، على أنّها ''محفوفة بالمخاطر''، نظرا لحجم التهديد المحاط بالمنطقة. الموقع الغازي الذي هاجمته الجماعية الإرهابية، ''الموقعون بالدماء''، زارته ''الخبر'' في رحلة استكشافية نظمتها السلطات''، وسنحاول أن ننقل لكم تفاصيل المكان وشهادات العمال الذين عاشوا ''رعبا حقيقيا''، فصل بينهم وبين الموت مسافة ''خطوة واحدة''. شهدت المحطة الداخلية لمطار الجزائر، أول أمس، بحلول الساعة السادسة صباحا، حركة دؤوبة لم تعرفها منذ شهور طويلة، كان ''غزاتها'' ما يقارب ال155 صحفيا يمثلون نصف دول العالم، ب99 أجنبيا من 14 جنسية، والباقي إعلاميون جزائريون. ويمكن بسهولة التعرّف على ''الانتماء الإعلامي'' لكل صحفي بحكم الأجهزة التي يحملها، فكان أغلبهم ممثلين لقنوات تلفزيونية ووكالات أنباء عالمية، أما مندوبو الصحافة المكتوبة، فعددهم قليل جدّا، ما يوحي، بلا شك، حقيقة أن المستقبل عنوانه ''إعلام الصوت والصورة''. داخل حجرة صغيرة لا تتسع لأزيد من ثلاثين شخصا، قامت إدارة المطار باستقبال الصحفيين، لتدوين أسمائهم ومنحهم وثيقة العبور إلى قاعة الركوب، ما خلق نوعا من سوء التنظيم لم يستسغه جلّ الحاضرين، كانت نتيجته تأخر موعد الرحلة بساعة كاملة، على أساس أنها برمجت للإقلاع على السابعة صباحا. ولتفادي تأخر إضافي، سارع عمال الاستقبال، في الوقت الضائع، لتخصيص مكتب ثانٍ لإتمام العملية، بعدما وصل غضب الصحفيين ذروته. حالة تأهب قصوى بمطار عين أمناس جال وزير الاتصال، محند بلعيد السعيد، بين مخرج قاعة الركوب وحافلة نقل الصحفيين إلى الطائرة، من أجل مصافحة الجميع دون استثناء، وهو يقول: ''رحلة سعيدة''، وقد بدت عليه ''معاناة'' مع البرد الذي ميّز تلك الصبيحة. وبعد مدة زمنية قليلة، تحرّكت الحافلة، لتتحرّك معها أزرار آلات التصوير والكاميرا لالتقاط الصور لأنّها، في نظر الصحفيين، بداية الروبورتاج الذي انتظروه مدّة طويلة للوقوف على حقيقة ما جرى، لاسيما الصحفيين الأجانب، ونفس الأمر تكرّر داخل الطائرة، لأنّها أيضا لحظات ستؤرخ ل''مرحلة جديدة لاستكشاف ما وقع بتيفنتورين''. استغرقت الرحلة للوصول إلى مطار عين أمناس ساعة ونصف من التحليق فوق أرض صحراوية عذراء، لم تطأها قدم إنسان. وهناك، وجدنا المطار في حالة تأهب قصوى، من خلال انتشار أفراد من الجيش الشعبي الوطني وعناصر من الدرك الوطني ورجال الحماية المدنية، وطائرات الهليكوبتر، من المرجح أنها استعملت في الهجوم على جماعة ''الموقعون بالدماء'' لتحرير العمال الرهائن. وخصّصت السلطات الولائية ثلاث حافلات لنقل الصحفيين نحو الموقع الغازي بتيفنتورين الذي يبعد عن عين أمناس ب69 كيلومترا شمالا، ولا يفصلهما سوى طريق ملتوية تترامى على أطرافها، قبل الخروج من عين أمناس، بيوت أشبه بالقصدير، ومصانع صغيرة لا تدل أي لافتة على طبيعة نشاطها، وسيارات رباعية الدفع من نوع ''ستايشن'' محروقة تم تكديسها. ثم بعد قطع هذه المسافة المقدّرة بحوالي 4 كيلومترات، لا يتراءى أمام الناظر سوى كثبان رملية، وبين الفينة والأخرى مرور شاحنات كبيرة ومركبات ''ستايشن'' التي تسيطر على المنظر العام لطرقات المدينة. موكب الصحفيين كان محاطا بحراسة أمنية مشدّدة، بتعداد 4 سيارات رباعية الدفع بين كل حافلة وأخرى. الموقع الغازي بتيفنتورين على شكل مدينة على مسافة 7 كلم، وقبل الوصول إلى الموقع الغازي بتيفنتورين، يبدو من الوهلة الأولى أنّه مدينة وليس مصنعا، نظرا لاحتلاله مساحة واسعة جدّا، تمتد على مدّ النظر، من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، واقتربت المسافة ليزداد معها ''شغف'' الصحفيين لاستكشاف موقع شهد أزمة ومأساة لفتت أنظار كافة دول العالم، لتترسّخ كأبرز حادثة دشنت بها السنة الجديدة .2013 أول موقع زرناه كان قاعدة الحياة التي تؤوي المسؤولين التنفيذيين والفرعيين والعمال الجزائريين والأجانب، فوجدنا أمام المدخل مدرعة للجيش الشعبي الوطني محاطا بها عسكريون، منهم قناصة، وكذا توزيع محكم لعناصر الدرك الوطني عبر محيط القاعدة. وقبل التجول داخل القاعدة لأخذ الصور وجمع شهادات العمال الذين عايشوا ''الكابوس''، جمع المدير العام للشراكة بمجمّع سوناطراك، كمال الدين شيخي، الصحفيين وأعطى لمحة عن الموقع الغازي ونشأته، باعتباره أول موقع يدشن في الجزائر للتنقيب عن الغاز. وتوزع الصحفيون داخل قاعدة الحياة، وكل واحد منهم ممسك بيده عاملا ليروي له تفاصيل الاعتداء لحظة بلحظة، والمحظوظ من يقبل له ''الشاهد''، وإن قبل فلا اسمه يذكر ولا صورته تلتقطها عدسة الكاميرا. فكان التجوّل داخل قاعدة الحياة فرصة لنقل صورة بنايتها التي تضرّرت بفعل الاشتباكات التي وقعت مع الإرهابيين خلال تدخل الجيش. إجراءات أمنية مشدّدة بمحيط الموقع الغازي شدّت الإجراءات الأمنية الشديدة التي أحيطت بقاعدة الحياة ومصنع الغاز، انتباه الصحفيين، فتجد في كل 10 أمتار عنصرا من الدرك الوطني وآخر من الجيش الشعبي الوطني، موزّعين توزيعا محكما، يدخل في إطار المخطط الأمني الذي تم تسطيره لحماية المنشآت البترولية والغازية، حيث تقابلك عند مدخل القاعدة مدرعة عسكرية من الحجم الكبير، تعطي الانطباع بأنّها ''حالة حرب''. كما تمّ في المقابل، تعزيز قدرات القاعدة الأمنية بعناصر إضافية مكلفة بحماية المنشآت، وتنصيب حاجز أمني على بعد 10 كيلومترات من الوصول إلى المنطقة، وحاجز آخر يتوسط قاعدة الحياة ومصنع إنتاج الغاز، وهي عناصر أمنية من الوحدات الخاصة للجيش الشعبي ووحدات التدخل التابعة للدرك الوطني. شهادات عمال مثيرة وغريبة اقتربت ''الخبر'' من عامل يرتدي بذلة زرقاء ويضع قبعة ونظارات شمسية، وطلبت منه أن يطلعها على تفاصيل الحادثة. بدا في البداية متحفظا خوفا على نفسه، فسألناه ممن؟ ولم يجب، قبل الإدلاء بشهادته لكن دون ذكر اسمه، مع السماح لنا بالتقاط صورة وجهه الذي حجبت ملامحه النظارات الكبيرة. وقال محدثنا إن الاعتداء كان في حدود الساعة السادسة إلا الربع من صبيحة يوم الثلاثاء 15 جانفي، وغالبية العمال الذين وقعوا رهائن في يد جماعة الإرهابي الطاهر بن شنب أو ''الموقعون بالدماء''، كانوا متواجدين بنادي القاعدة، والبقية كانوا في غرفهم، فيما جزء آخر منهم كان متوجها نحو المصنع. وفي هذه اللحظات، يضيف المتحدث، سمع دوي صفارات الإنذار، فأدرك الجميع أنّ خطرا يترصدهم، لاسيما أن صوت الإنذار كان متقطعا ما يعني، في نظر العمال، الانبطاح أرضا وعدم التحرّك من أماكنهم. وأفاد متحدث ''الخبر'' أنّه، في هذه الأثناء، بدأ الرعب يتسلّل إلى الجميع، لعدم توقف صفارات الإنذار التي عوّضتها بعد دقائق من توقفها، أصوات طلقات الرصاص الذي تبادله عناصر الدرك الوطني مع الإرهابيين، لساعتين كاملتين، مشيرا إلى أن العناصر الإرهابية بعد ذلك اقتحموا النادي، حيث كان متواجدا فيه حوالي 200 عامل، بين جزائريين وأجانب، مضيفا ''لم يكن همّنا، كجزائريين، سوى حماية الأجانب، خوفا عليهم من اختطافهم، وهو ما تأكد لنا بعد أن طلب منا الإرهابيون الذي كان عددهم حوالي 12 فردا، أن نكشف لهم الأجانب الذين كانوا هدفهم، فيما سمح لنا نحن بالمغادرة''. يسترجع المتحدث أنفاسه ويمسح على صدره، ويواصل سرد ما وصفه ب''الكابوس الحقيقي''، قائلا: ''كنا نسمع لهجات في حديث الإرهابيين ليست جزائرية. ومع مرور الوقت، استطعنا معرفة أنّهم من تونس وليبيا ومصر، وهو ما استغربناه جميعا كجزائريين. وكانت أصواتهم عالية جدا، تنادي بضرورة أن نحدّد لهم هوية الأجانب، وهو ما رفضه الجميع، وقمنا بإدخال هؤلاء وسطنا عندما طلب منا الإرهابيون مغادرة النادي، لأنّهم خشيوا من مهاجمة الجيش لهم داخل النادي''. أول رهينة أجنبي كان من جنسية رومانية تعرّف الإرهابيون على الأجانب لم يكن سهلا، حسب شهادة محدثنا، لكن الأمر لم يدم طويلا، موضحا: ''كنا نتتابع لدى خروجنا من النادي، ونظرا لتشتت الإرهابيين، لم يكن لديهم الوقت للتأكد من هوية الجميع، ما مكّننا من تهريب بعض الأجانب إلى فناء القاعدة. لكن نظر إرهابي مكّن من الاشتباه في عامل وأوقفه، واتضح أنّه روماني الجنسية، فبدأ ينادي على رفاقه بأنّه أمسك أجنبيا. وهنا، شرعوا في عملية التدقيق في جميع الهويات، ليكون أول رهينة أجنبي رومانيا''. تتقاطع هذه الشهادة مع تلك التي أدلى بها المدير العام للمنشأة البترولية، لطفي بن عبيدة، لاحتوائها تفاصيل مثيرة، بدأها بقوله إن الإرهابيين بمجرد سيطرتهم على قاعدة الحياة، رسموا هدفا واحدا وهو ''اختطاف العمال والمسؤولين الأجانب''، وحادثة التعرّف على الروماني مكّنتهم من تحديدهم، وقاموا بربطهم بأحزمة متفجرات ناسفة، وكلّفوا إرهابيا بإمساك ''سلكي'' التفجير وعدم إطلاقهما، وحالما يتلقى تعليمات، يفجّر نفسه بالرهائن. وواصل بن عبيدة شهادته من موقعه كمسؤول أول عن المنشأة ورهينة في ذات الوقت، فقال: ''بعد محاصرة الجيش وعناصر الدرك، استعملونا كدروع بشرية لحماية أنفسهم من هجمات القوات الخاصة. وفي ظل الحصار، غيّروا من طريقتهم، وأصبحوا يمارسون العنف معنا، للسماح لهم بالخروج من قاعدة الحياة رفقة الرهائن باتجاه المصنع الذي يبعد بحوالي 3 كيلومترات تقريبا''. إصابة الطاهر بن شنب مكّنت من فرار العمال وتابع المتحدث شهادته تحت حصار فرضه عليه الصحفيون، مشيرا ''بعد ذلك، قاموا بتوزيع الرهائن على قاعدة الحياة، حيث كانت مجموعة بالقرب من المدخل، وأخرى خلف القاعدة وكان هذا يوم الخميس. وكان تدخل القوات الخاصة ثغرة مكّنت الرهائن من الفرار، بعد الإصابة الخطيرة التي تلقاها قائدهم الطاهر بن شنب، ما خلق ارتباكا بين الإرهابيين، وساعد الرهائن الجزائريين على الخروج من القاعدة''، موضحا ''قبلها، تمكنوا من تحديد هويتي ومنصبي، وطلبوا منّي الحديث مع قناة تلفزيونية لم أعرفها. وعندما رفضت، ضربني إرهابي من جنسية مصرية، وقالوا لي إنّي مطالب بالتطبيق من أجل إيصال معلومات للجيش الشعبي عن طريق تلك القناة''. لكن لطفي بن عبيدة رفض الإفصاح عنها، وهو ما يوحي أنّ الإرهابيين حاولوا فرض شروطهم في المفاوضات مع الجيش، لكنّهم فشلوا في ذلك. إرهابيان من تونس وليبيا كُلّفا بالبحث عن الأجانب عامل آخر يدعى محمدي محمد يعمل منسق مخزن بالمصنع، روى ل''الخبر'' شهادته التي بدأت فصولها التراجيدية بتوجهه نحو النادي لاحتساء كوب قهوة، قبل التوجه إلى المصنع، وكانت الساعة حينها تشير إلى الخامسة وخمسين دقيقة، مشيرا ''في طريقي، سمعت صوت الرصاص، اعتقدت في البداية أنّه صوت جرّ آلة، لكن زميلي بدأ يصرخ ويقول: إرهابيون، إرهابيون، فأسرعت بالعودة إلى غرفتي والانبطاح أرضا''. وقال في تفاصيل الهجوم: ''اقتحم غرفتي، بعد عشر دقائق، إرهابيان، واحد تونسي والآخر ليبي، وطلبا منّي أن أدلهما على غرف مبيت الأجانب، فامتنعت. ثم قام أحدهما بكسر باب غرفة مجاورة لي بواسطة مطفأة، فلم يجد أحدا، فطلبا أن أحمل بطاقة هويتي وأخرج إلى الفناء، وهما يناديان: عمّي الطاهر.. ويقصدان قائدهم الطاهر بن شنب''. شهادة أخرى مثيرة فصّلها عامل يدعى ''إسماعيل''، في الأربعينيات من عمره، يعمل تقنيا في الآلات، استهلها بذلك الطلب الموجه له من قبل الإرهابيين بمغادرة قاعدة الحياة، باستعمال حافلة على متنها جزائريون فقط دون الرهائن الذين تمّ ربطهم بأحزمة ناسفة، مشيرا ''قمت بذلك بالفعل، وأقلعت الحافلة باتجاه مخرج القاعدة. ولما تجاوزته، تلقيت إشارة من عناصر الدرك الوطني بالتوقف، ولحسن الحظ أنّي قمت بإخفاء جهاز الراديو الخاص بي واستعملته للتواصل مع عناصر الدرك، وأخبرتهم بأنّنا جزائريون ولا يوجد بيننا أي عنصر إرهابي''. وأضاف: ''في هذه الأثناء، اشتدت مخاوفي، لأنّ أسلحة الدرك الوطني كانت مصوّبة تجاهي، فطلبوا مني السير نحوهم مع التخفيف من الألبسة التي كنت أرتديها، وأنا أحمل في يدي اليسرى بطاقة العمل وباليمنى جهاز الراديو، إلى غاية أن وصلت إليهم، فأطلعتهم على التفاصيل، وطلب مني عناصر الدرك القدوم مع جميع العمال، البالغ عددهم 40 جزائريا، مشيا وليس على متن الحافلة، خوفا من احتمال تفخيخها من قبل الإرهابيين''. وسألته ''الخبر'' عن الحديث الذي كان يدور بين الإرهابيين، فأجاب: ''كانوا يتحاشون الحديث مع بعضهم البعض أمامنا، لكنّهم تارة يرفعون أصواتهم عند تسمية الأسلحة التي بحوزتهم ومدى قوتها وفعاليتها. وكان هدفهم من وراء ذلك ترويعنا، لاسيما أنّهم كانوا قد جهّزوا سيارة مفخخة لتفجير المصنع بها، وإن نجحوا في ذلك، فمعناه وقوع انفجار يصل مداه 40 كيلومترا مربعا''.