تصريحات الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال حميد شباط، التي تحذر من 'مصرنة' المغرب، جاءت صادمة للعديدين لاعتبارات عديدة. الاعتبار الأول هو أن هذه الانتقادات موجهة لحزب العدالة والتنمية الذي يقود التجربة الحكومية الحالية، التي تضم ضمن مكوناتها حزب الاستقلال، ولم يتوان حميد شباط في كيل الاتهامات لوزراء العدالة والتنمية كونهم متأثرين بالتجربة المصرية ويريدون نقلها إلى المغرب. لم يكتف بذلك ولكنه شن هجوما عنيفا على رئيس الحكومة، واصفا إياه بالاستئصالي الذي يستفرد بجميع القرارات ويهمش أحزاب التحالف الأخرى. جاء ذلك على هامش تقديم مذكرة إلى رئيس الحكومة ضمنها جملة من الانتقادات الأخرى، ومطالبا بإجراء تعديل وزاري بشكل مستعجل..على خلفية عدم رضاه على أداء وزراء حزب الاستقلال الذين تم تعيينهم في عهد عباس الفاسي الأمين العام السابق لحزب الاستقلال. جرت التقاليد السياسية على أن الخلافات التي تحصل بين أحزاب أي تحالف حكومي يتم تدبيرها داخل أطر مؤسساتية مسؤولة وليس على صفحات الجرائد، ولذلك كان قرار قيادة العدالة والتنمية هو عدم الرد على هذه التصريحات، مادام حزب الاستقلال ملتزما بمساندة الحكومة داخل البرلمان ويصوت بالإيجاب على مشاريعها القانونية. بعض الأصوات داخل حزب لاستقلال ارتفعت منددة بهذه التصريحات، معتبرة إياها مسيئة للثورة المصرية ولأرواح الشهداء الذين سقطوا في ميدان التحرير، وهو ما دفعها إلى تقديم اعتذار للثورة المصرية باسم حزب الاستقلال. لكن بعيدا عن هذه الاعتبارات السياسية فإن تصريحات شباط جاءت صادمة للقيادات التاريخية لحزب الاستقلال، التي تعرف جيدا نوعية العلاقة التي كانت تربطهم بالمصريين، وتستبطن جهلا فظيعا بتاريخ حزب الاستقلال وعلاقته بالمشرق، وتحديدا بالقاهرة، حيث عاش علال الفاسي زعيم الحزب سنوات المنفى ونسج علاقات قوية مع الوطنيين المصريين، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين. وفي مقر إقامته بمصر كتب علال الفاسي كتاب 'النقد الذاتي' و'نداء القاهرة' و'حديث المغرب في المشرق'، الذي كان عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقاها في القاهرة.. وظل الرجل يكتب ويؤلف ويناضل من دون كلل أو ملل إلى أن توفي وعمره لا يتجاوز الأربع والستين سنة، مخلفا أكثر من 46 مؤلفا ومئات الرسائل والخطب والمحاضرات في مختلف المجالات المعرفية. من يقرأ كتب علال الفاسي يخرج بخلاصة واحدة، وهي أن العلاقة بين المشرق والمغرب لم تنقطع منذ أن جاء الإسلام من المشرق، وجعل الله الكعبة في المشرق وجاء مذهب الإمام مالك إلينا من المشرق.. تماما كما لم تنقطع علاقة حزب الاستقلال بمصر الشقيقة. كان علال الفاسي رحمه الله، زعيما وطنيا وقائدا حزبيا ومناضلا سياسيا، لكنه كان قبل ذلك، ومعه، وبعده عالما مجتهدا وفقيها أصوليا، ورجلا على خلق.. ينطلق من رؤية مقاصدية ثاقبة تجتهد لزمانها وتحاول معالجة المشكلات المحيطة به. ناضل علال الفاسي ضد الاستعمار والاستغلال وضد الخرافة والجهل وضد الاستبداد والحكم المطلق، ولم تبرز في تاريخ المغرب المعاصر أية شخصية تجمع بين هذه الموسوعية العلمية والنضالية السياسية والتنوع في الاهتمامات، بنفس القوة والعطاء. لقد كان علال الفاسي زعيما لحزب الاستقلال، لكن أفكاره واجتهاداته وكتاباته المتنوعة لم تعد حاضرة في أدبيات الحزب وفي خطاباته ومذكراته، ويمكن القول بأن مشكلة السياسة والسياسيين في هذا البلد تكمن في ارتفاع صوت الشعبوية والديماغوجية وتسطيح الوعي على حساب التأسيس النظري للمواقف والاستيعاب العقلاني للأحداث والوقائع. كان علال الفاسي متابعا لما يجري في المشرق، خاصة ما كان يجري في مصر، وكان يراقب تطورات جماعة الإخوان المسلمين، من دون أن يخفي إعجابه بتضحيات حسن البنا وأسلوبه في العمل، وكانت تربطه علاقة قوية بمسؤولي الجماعة، وقد سبق لمجلة 'النذير' التابعة للإخوان المسلمين أن خصصت عددا خاصا بقضية المغرب الأقصى ووضعت في لوحة الغلاف صورة كبيرة للمرحوم علال الفاسي تحت عنوان: 'البطل المجاهد السيد علال الفاسي.'.. وبعد عودته إلى المغرب بعيد الاستقلال، كان علال الفاسي على اتصال قوي بتوفيق الشاوي صاحب كتاب 'الشورى والاستشارة' والمعروف بانتمائه الإخواني، الذي كان يشغل آنذاك منصب مستشار قانوني في أول برلمان مغربي من دون أن يتهمه أحد بمحاولة 'مصرنة' المغرب، ولم يكن توفيق الشاوي سوى صهر الفقيه القانوني الكبير عبد الرزاق السنهوري صاحب كتاب 'الخلافة' وصاحب موسوعة 'القانون المدني' الشهيرة التي كانت تدرس في الجامعة المغربية، من دون خوف من 'مصرنة' المغرب. وعندما قرر جمال عبد الناصر إعدام الشهيد سيد قطب، كان علال الفاسي من بين العلماء الذين تدخلوا لدى عبد الناصر لوقف تنفيذ حكم الإعدام في حق صاحب 'الظلال'، وأرسل رسالة موقعة من طرفه إلى جانب المرحوم أبو بكر القادري. (نشرت هذه الرسالة في مجلة الإيمان التي كان يديرها أبو بكر القادري رحمه الله)، بل أكثر من ذلك انتدب حزب الاستقلال كلا من امحمد بوستة الأمين العام لحزب الاستقلال سابقا والمحامي عبد الكريم بنجلون لمؤازرة الشهيد سيد قطب أثناء عملية المحاكمة، وفي طريقهم إلى القاهرة توقفوا في بيروت عندما بلغهم نبأ إعدام سيد قطب فقرروا الرجوع إلى المغرب. من بين الحيثيات التي قدمت لإعدام سيد قطب أمام المحكمة، كتابه 'معالم في الطريق'، لذلك لم يتردد علال الفاسي بعدما تم تنفيذ حكم الإعدام بأن يقوم بإعادة طبع هذا الكتاب، وأصدرت مطابع الرسالة التابعة لحزب الاستقلال نسخة جديدة منه سنة 1966 ضمن سلسلة الجهاد الأكبر الكتاب رقم 3 ، كما كتب علال الفاسي مقالة قوية في حق الشهيد سيد قطب، نشرت في جريدة 'العلم' يدافع فيها عن أفكار سيد قطب ويفند فيها الاتهامات التي وجهت لكتاب 'معالم في الطريق'، وقد ذكر علال الفاسي في هذا المقال أن صديقه سيد قطب أهداه نسخة من كتاب 'السلام العالمي والإسلام'، وأنه قد قرأه وأعجب به كثيرا، حتى إنه ذكر ذلك لمؤلفه وقال:'إني أعُدُّه من قلائل الكتب التي تمنيت بعد فراغي من قراءتها أن لو كانت من مؤلفاتي. فسُرَّ بذلك كثيرا، وقال لي: إني أعتز بهذا التقدير وأعرف أنه صادر من قلب صادق..'، وكتب بعد ذلك قصيدة حزينة يرثي فيها الشهيد.. يحكى عن علال الفاسي أنه كان يتحسر كثيرا عندما كانت تقع بعض المشاكل داخل حزب الاستقلال، على عدم نجاحه في تأسيس مدرسة تربوية داخل حزب الاستقلال على غرار جماعة الإخوان المسلمين في مصر.. يا ليتك فعلت يا سيدي علال... ولك الرحمة والمغفرة على ما أبليت، وأطال الله في عمر امحمد بوستة..ونسأل الله الهداية وحسن الخاتمة لمن جاء بعدكما على رأس حزب الاستقلال..ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.