اختارت جماعة "العدل والإحسان" المغربية، شبه المحظورة، الشيخ محمد عبادي خلفا لمؤسسها ومرشدها الراحل الشيخ عبد السلام ياسين، الذي وافته المنية يوم 13 ديسمبر (كانون الأول) 2012. وحسب بيان صادر عن الجماعة، واستنادا إلى ما قيل في ندوة صحافية عقدتها مساء يوم الاثنين 24 ديسمبر، أي بعد مرور 11 يوما على رحيل الشيخ ياسين، فإن الجماعة آثرت تسمية رئيسها الجديد، الفقيه محمد عبادي، ب”الأمين العام” على غرار أغلب الأحزاب السياسية المغربية، التي استبدلت صفة الأمين العام بالرئيس، لما يشير إليه ذلك من قيادة جماعية واختيار المسؤول الأول عن طريق الاقتراع السري المباشر. ويبدو أن “العدل والإحسان” أرادت التعبير عن الوفاء المطلق لمؤسسها بأن لا تطلق على أحد سواه في الجماعة، كيفما كان مقامه، لقب “المرشد العام”، متميزة في هذه المسألة عن تنظيمات إسلامية مثل حركة “الإخوان المسلمين” المصرية، التي خرجت من رحمها أغلب الجماعات الدعوية المماثلة الناشطة في بعض الأقطار العربية، التي تحافظ على هرمها التنظيمي بأسمائه ومسمياته. ولم تقتصر بشائر التجديد والانفتاح المحسوب، عند هذا الحد، إذ أدخلت الجماعة المغربية، جرعة من الديمقراطية المتمثلة في تعدد المرشحين لمنصب الأمانة العامة، الذي تبارى عليه كل من، عبادي، المنتخب أو المتفق عليه، وفتح الله أرسلان، الذي اضطلع، بدور الناطق الرسمي باسم الجماعة، ومارسه منذ سنوات، واكتسب بفضله خبرة في الاتصال والحوار مع وسائل الإعلام المغربية والأجنبية. وقد رقي الآن، إلى رتبة نائب الأمين العام، وهو منصب محدث له دلالته التنظيمية. وكلا الرجلين انتخب لولاية قابلة للتجديد مدتها خمس سنوات، أي أن الجماعة تبنت مبدأ التداول على القيادة بدل الولاية الدائمة، علما أن أمينها الجديد صرح في اللقاء الصحافي أن كل عضو في “العدل والإحسان”، قادر على تسيير دولة، كتعبير حماسي، عن كفاءة الأعضاء وتكوينهم العقائدي والمساواة بينهم. ولمحت الجماعة بكيفية غير مباشرة في معرض حديث عضو مجلس الإرشاد عبد الواحد المتوكل، جوابا عن سؤال للصحافة، بخصوص موقف الجماعة من دولة “الخلافة” الإسلامية، التي طالما دعا إليها الشيخ عبد السلام ياسين، في كتاباته وخطبه ومواعظه ومطارحاته، فقد أوضح المتوكل أنه “ليس مهما مسمى نظام الحكم، وإنما مضمونه”، مبرزا أن مهمة إقامة دولة الخلافة الإسلامية، “ليست موكولة إلى الجماعة المغربية وحدها، وإنما إلى الأمة الإسلامية جمعاء”، متمنيا أن يتحقق ذلك الأمل بعد أن “تتحرر الدول الإسلامية برمتها”، على حد قوله. ومن شأن هذا “التعميم” أن يبعد عن الجماعة تهمة العمل على استبدال دولة الخلافة بالنظام الملكي في المغرب، على اعتبار أن تلك الدعوة، تعد واحدة من أسباب الخلاف المستحكم والمزمن بين “الجماعة” وبين السلطات المغربية، لما له من تداعيات التشكيك في بيعة المغاربة للملك وإمارة المؤمنين، التي يمارسها بمقتضى الدستور والتفويض الشعبي. إلى ذلك، لم تظهر الجماعة في لقائها الأول مع الصحافة، بعد وفاة مؤسسها، أي اعتدال في خطابها الموجه إلى السلطات المغربية، لدرجة أن أحد القياديين وصفها ب”العابثة” على خلفية رفضها الموافقة على حجز مكان في المقبرة بجوار مدفن الشيخ ياسين، لتدفن فيه أرملته التي عبرت عن تلك الرغبة بقوة. لكن ينظر إلى ذلك التوصيف على أنه انفعال واحتجاج على معاملة الشيخ ياسين في حياته ومماته. وفي هذا السياق المتوجس، انتشرت أخبار أن الجماعة خشيت من نبش قبر مؤسسها، ما جعلها تقيم عليه الحراسة بعد دفنه ليلتين متواليتين، إلى أن تمكنت من إحاطة القبر بالرخام السميك، كما راج أيضا أن السلطات المغربية خشيت بدورها من بناء ضريح للشيخ ياسين، يصبح مزارا شعبيا. وهذا “الشك” المتبادل، بين الجماعة والسلطات المغربية، ليس مستغربا، بل هو استمرار طبيعي للأزمة التي برزت بين الجانبين في أعقاب وفاة الشيخ ياسين، حيث تعامل الإعلام الرسمي مع الوفاة وكأنها حدث عادي، فلم يخصها بتغطية تناسب مقام مرشد العدل والإحسان، وعلو قامته في الدين، كما لوحظ أن العاهل المغربي، الملك محمد السادس، لم يبعث برسالة تعزية إلى أسرة الراحل، مثلما لم يشارك وفد حكومي رسمي في الجنازة، واتخذ حضور رسميين إلى بيت الفقيد للقيام بواجب العزاء، صبغة شخصية مثلما فعل رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران ووزراء في حكومته. حسم الخلافة ويعتقد متتبعون لشأن “العدل والإحسان”، أنها حسمت في مسألة الخلافة بسرعة، واضعة بذلك حدا للشائعات التي انتشرت على نطاق واسع بخصوص بروز خلافات في صفوفها، لتظهر موحدة الرأي، أمام أتباعها من جهة وأمام السلطات المغربية التي تراقب بيقظة وحذر “الحراك” الداخلي الجاري في تنظيم ديني، يحظى بانتشار وتعاطف بين شرائح اجتماعية مغربية منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني. وفي هذا الصدد لم ينكر القيادي في الجماعة المتوكل، وجود نقاش بين أعضائها، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن الاتفاق على اتخاذ القرار، يتم بالحوار والإصغاء المتبادل للرأي الآخر، وكأن المتوكل يريد بشكل غير مباشر، أن يبعد عن الجماعة صفة التنظيم الحديدي المغلق القائم على الطاعة والعمياء وعصمة المرشد بل إنها واعية ومنفتحة على منا يجري خارج التنظيم على الصعيدين المحلي والإقليمي. وفيما قد يفسر بأنه رغبة من الجماعة في ممارسة نشاطها السياسي الدعوي في المجتمع، كسائر التنظيمات، فقد باتت تعتبر نفسها جماعة معترفا بها من طرف القضاء، الذي لم يحكم بالطعن في شرعيتها أو عدم استيفائها الشروط والمسارات القانونية المنظمة للجمعيات في المغرب، علما أن لازمة “شبه محظورة” التي تنعت بها الجماعة، هي من ابتكار وسائل الإعلام، لوصف وضعها القانوني منذ تقييد حرية حركة الشيخ ياسين، أثناء حكم الحسن الثاني. وهناك أمر آخر يمكن أن يعتبر مؤشرا على “انفتاح” الجماعة نحو الأطياف الحزبية والفكرية في المغرب، يعكس نزوعها المضمر نحو ممارسة النشاط السياسي. يتجلى ذلك من خلال دعوتها في بيان صادر عن مجلس الشورى “كافة القوى الفاعلة إلى فتح نقاش وحوار مجتمعي مسؤول واستثمار أجواء الربيع العربي”، كما دعت الجماعة إلى ما سمته “رسم خارطة طريق لمناهضة الاستبداد والفساد، وبناء مغرب الكرامة والحرية والعدالة”، على حد ما جاء في ذات البيان. لكن مؤشرات الانفتاح الضعيفة تلك، لا تعني سهولة، محو الخلاف القائم بين الجماعة والسلطات المغربية، منذ عقود، ما جعل البعض يقول إن هذه الأخيرة ضيعت فرصة “الهدنة” مع الجماعة في مناسبة جنازة مرشدها، ولذلك فإن “الأزمة” بين الجانبين مرشحة للاستمرار إلى حين تحديد ملامح الطريق، الذي ستسلكه الجماعة بعد غياب مؤسسها ذي المكانة التنظيمية والهالة الروحية، والإسهام الفكري الغني، في ضوء تكهنات ترجح أن يسلك الأمين العام الجديد نهجا معتدلا بدل القطيعة. ويمكن القول إن الفرصة التاريخية، أصبحت مواتية للطرفين أي الجماعة والنظام، للتوصل إلى صيغة “تفاهم” ما، تجنب المغرب والجماعة أزمات إضافية، هما في غنى عنها، بل قد يتيح ل”العدليين” العمل في نطاق الشرعية والعلنية، والتخلص التدريجي بالتالي من تهمة الحركة الدينية المخيفة المناهضة للنظام. وفي الظروف الحالية، يبدو هذا الاحتمال ضعيفا إلى حد ما، وسط أجواء الهجوم الواسع على حكومة الإسلاميين المعتدلين التي يقودها حزب العدالة والتنمية، وعلى ضوء دلائل تشير إلى رغبة أطراف سياسية مغربية على صلة بجهات نافذة، في التخلص من حكومة عبد الإله بنكيران، الذي كما، هو معلوم، يستقي من المرجعية الدينية ذاتها، في جناحها الفكري المعتدل، وحاول من جهته في وقت من الأوقات، بعد أن أصبح رئيسا للجهاز التنفيذي، مد يد الصلح إلى الشيخ ياسين، الذي رفض مبادرته بقوة. ويسود انطباع عام في المغرب مفاده أن صفحة جديدة قد انفتحت في العلاقة المتأزمة بين “العدل والإحسان” والنظام الرسمي، ويتساءل الجميع عمن المطلوب منه أن يتنازل أكثر وإبداء المرونة اللازمة، تجنبا لتكرار صدام محتمل تقود إليه الأجواء المحتقنة، والأطراف الخائفة من الإسلاميين؟ المؤكد أن عوائق قائمة في الطريق، لكنها لا تمنع بالضرورة السير ولو خطوة خطوة.