تونس تشهد ومنذ مدة تحرّكات وممارسات عنيفة للتيار 'السلفي' لاحت خطورتها منذ الأيام الأولى لكل ذي بصيرة. ولئن علّل البعض ذلك بالفلتان الأمني الذي عقب رحيل رأس النظام، فلم تعد تلك الحجة تبرّر التطاول لا على الرموز ولا على الحريات ولا على الأشخاص. تطاول وصل حدّ التهديد الصريح والدعوة والتحريض على القتل بإسم 'نصرة الدين والشريعة'. ألم يتعرّض وزير الداخلية نفسه للتهديد علنا ومن على المنابر: 'والله لنجعلك عبرة لمن يعتبر!' ؟ ألم تبلغ الحملة الشعواء على 'الشيعة' في تونس، ذروتها أول أيام عيد الفطر، يوم خرج علينا السيد أبو عياض، أمير تنظيم 'أنصار الشريعة'، مرة أخرى، ليعلن على رؤوس الأشهاد، وفي خطبة العيد، إنه 'لن يسمح بنجاح ما وصفه ب'الزحف الشيعي الرافضي' على تونس، مُتوعّدا بألاّ 'مكان للشيعة الروافض في تونس، وأن أحفاد عقبة ابن نافع سيطردونهم كما طردوهم سابقاً، وذلك مهما حاول الإعلام تشويه الذين قاموا قومة رجل واحد، غضبة لدين الله ونصرة لإخواننا في الشام، لطرد هذا الخبيث (في إشارة لسمير القنطار)'؟ ألم تشهد مدينة قابس مواجهات دامية بين أعضاء ومناصري 'الرابطة التونسية لمناهضة المد الشيعي' ومنتسبي 'جمعية أهل البيت الثقافية بتونس'؟ نعم لقد بات شبح الفتنة الطائفية يُطلّ برأسه في تونس ممّا قد يهدّد نسيجها الاجتماعي والنيل من وحدتها الوطنية. واهم من يتصوّر أن هذه الأحداث قد تشكّل فرصة للتنصّل ممّن أُسقطوا سهوا أو عمدا من قائمة المستفيدين من استحقاقات الحراك الثوري واهم أيضا من يمنّي النفس بأنّ الملف 'السلفي' يمكن استثماره سياسيا خلال لعبة عض الأصابع الإنتخابية وواهم أيضا من يقنع نفسه أنّه فكّ شفرة هذا الملف أجندة وتمويلا واستقطابا وتوظيفا!!! من يستهين أو يتغاضى على مظاهر التطرّف والغلوّ هذه، والتي تتّخذ منحى تصاعديا، وصبغة طائفية، ما ينذر بوخيم العواقب، يعبّد الطريق للفتنة ويدفع بالبلاد والعباد نحو حروب وتطاحن، وإن وفّرت مرحليا ما يلزم للقسمة الضيزي : 'أمن' مقابل 'القبول بالأمر الواقع'، ستعصف بالخريطة كلّها. ألم يكن حريّا بنا، ونحن من تدُبّج فينا وفي 'ثورتنا' القصائد ونُوصف بال'قدوة والنّموذج' الذي سيُحتذى به في 'الانتقال الديمقراطي'، و' قاطرة التغيير في الوطن العربي'، أن نتصدّى، ومنذ سفر تكوين الأول، لهذه التجاوزات الخطيرة، التي لا 'تُبشّر مطلقا بثقافة'، بل تؤسسّ لحالة من الإرباك والفوضى وتشتّت القوى الفاعلة التي قادت 'الثورة' لتخوض حروب الدونكيشوتية والوكالة، فتناسل قوى غريبة كانت حتى الأمس القريب تعمل في الظلام لتتمعّش اليوم من حالة الإرتباك ومن مضاعفات الأداء الحكومي المتعثّر، وتعزّز وجودها وتنظّم صفوفها كي تبدأ العمل وفق 'أجندة' متطرّفة لا علاقة لها بتونس ولا بثقافتها الوطنية وموروثها الديني ولا بتاريخها؟ إن الظاهرة 'السلفية' التي توظّفها دول وأجهزة عربية وغربية لحرف المسار الثوري أو تدجينه أو هندسة مخرجاته أو'الاستثمار' في فوضاهم غير الخلاقة، تتحوّل تدريجيا إلى مصدر تهديد للأمن والوحدة الوطنية، لا تتجاوز تونس، فحسب لتشمل باقي الأقاليم العربية، وإن بتفاوت تبعا للخصوصية القطرية وتعقيدات النسيج الإجتماعي لكل إقليم، بل تتنزّل ضمن إطار ما يطلق عليه الدكتور والمفكر طارق رمضان مصطلح : 'التحالف الاستراتيجي الضروري' بالنسبة للغرب والسلفيين في كل من الحقل الديني والحقل السياسي، لأنه الوسيلة الأكثر فعالية للتحكّم في الشرق الأوسط.' إذ بدل أن يدخل الغرب في صراع مباشر سيؤدي إلى توحيد المسلمين تكمن الاستراتيجية الأكثر فعالية بالنسبة له في تقسيم المسلمين حول الشرط الديني ذاته: الشيء الذي يعني تحويل التنوّع الطبيعي بين المسلمين إلى أداة للتفرقة الفعالة والنافعة. وعليه فإنّ 'حماية إمارات النفط الخليجية وحماية أيديولوجياتها الدينية مع تقسيم القوى السياسية القادرة على توحيد الصفوف يستدعي تلغيم الدول ذات الأغلبية المسلمة من الداخل!' الشيخ مورو لا يطلق التصريحات من فراغ حين يقول: ''نعم هؤلاء يأخذون شبابا ليس لديهم معرفة دينية سابقة وحديثي عهد بالصلاة ويعلّمونهم قواعد الفكر الحنبلي... هذا باب فتنة إياكم يا تونسيين منه' لعلّ هذا ما حدا بالمحاضر والباحث في الشؤون الدولية، روب برنس، Rob Prince ، إلى أن يخلص في ورقته البحثية، التي حملت العنوان التالي: 'متشددو الربيع العربي: سلفيو تونس'، والتي نشرها مؤخّرا بموقع: Foreign Policy In Focus، التابع للمعهد الأمريكي للدراسات إلى القول: 'رغم أنّ الأمر يبدو غريبا بالنسبة إلى الأمريكيين فإن السلفيين يلعبون أدوارا جوهرية في دعم سياسات الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط'. إنّ تعزيز بؤر الاحتقان والنّفخ في أوار الصراعات الطائفية أو المذهبية لإيقاظ الفتن وإشعال حرب داخلية مرتفعة ومنخفضة الوتيرة، سيحوّل الدولة القطرية الفاشلة أصلا، إلى'كانتونات' قبلية و'بانتوستانات' إثنية يحكمها أمراء الحروب وهؤلاء الذين فرّختهم أنظمة العسف الإقليمية ووكالات الإستخبارات الأجنبية. هؤلاء الذين يختطفون الحراك الثوري في كل قطر منتفض، ينفّذون حرفيا تعاليم استراتيجيات الكيان ما أوضّحته دراسة :'حدود الدم'، التي نشرها رالف بيترز، بمجلّة البحرية الأمريكية، موصيا فيها بضرورة إعادة رسم الحدود والخرائط بمنطقة الشرق الأوسط، بشكل'أشد قسوة' بصريح عبارته، والتي يسير استراتيجيو الإدارة الأمريكية على 'هديها'. أبرز ما ورد فيها من توجيهات نوجزه كالآتي: 'بما أن حدود الدول الراهنة في الشرق الأوسط هي الأكثر تعسفاً وظلماً، جنباً إلى جنب مع حدود الدول الإفريقية التي رسمها أيضاً الأوروبيون لمصلحتهم الخاصة وعليه فإنّه يقترح حدودا جديدة ستحقق العدل للسكان الذين كانوا الأكثر عرضة إلى الخديعة، وهم الأكراد، والبلوش، ثم المسيحيون والبهائيون والإسماعيليون والنقشبنديون، وغيرهم من الأقليات التي تجمعهم رابطة 'الدم والإيمان'. كذلك فإن إعادة رسم الحدود تتطلّب تقسيم وإعادة تركيب كل دول الشرق الأوسط تقريباً: من الدول العربية إلى باكستان، ومن تركيا إلى إيران. ليقترح تقسيم إيران إلى أربع دول، وكذلك العربية السعودية، وسورية إلى دولتين: مذهبية عرقية جديدة و'لبنان الكبير'، الذي سيضم كل 'ساحل فينيقيا' القديم. كما يوصي بمنح معظم الأقليات الدينية والعرقية إما الاستقلال أو الحكم الذاتي. أما عن الكيان الصهيوني وهنا بيت القصيد، فرالف بيترز يعلن أن حصة 'إسرائيل' الجغرافية في الخريطة الجديدة، وهي حصة واجبة الوجود لأن الشرق الأوسط الجديد الذي سيرث شرق أوسط بريطانيا وفرنسا، سيكون في الدرجة الأولى'أمريكياً-إسرائيلياً' مع تلاوين أطلسية وأوروبية، ومع الحرص على طرد روسيا والصين منه. هؤلاء الذين يحرفون المسارات الثورية ويلتفّون على استحقاقات الميادين المعمّدة بدم الشرفاء من الوطنيين، وهم يدكّون آخر الحصون ويقوّضون أعمدة المجتمع والنسيج الإجتماعي، ويحوّلون المنطقة إلى مسرح من الدول الفاشلة، ويؤسسون لحروب طائفية لن تبقي ولن تذر، يلتقون موضوعيا مع ما يرد بقول موشي فرجي عميد الموساد السابق: 'إنّ خريطة المنطقة في النظر الإسرائيلي تعرف بحسبانها بقعة من الأرض تضمّ مجموعة أقلّيات لا يوجد تاريخ يجمعها. من ثم يُصبح التأريخ الحقيقي هو تأريخ كل أقلّية على حدة. والغاية من ذلك تحقيق هدفين أساسيين هما: رفض مفهوم العروبة والدعوة إلى الوحدة. ذلك أن الرابطة العربية في التصوّر الإسرائيلي فكرة يحيطها الغموض، إن لم تكن ذات موضوع على الإطلاق. وهم يعتبرون أن الوحدة العربية خرافة. فالعرب يتحدثون عن أمة واحدة، لكنّهم يتصرّفون كدول متنافرة! 'ثم وهو الأهم، تبرير شرعية الوجود الإسرائيلي الصهيوني في المنطقة. إذ هي وفقا لذلك التوجّه تصبح خليطا من القوميات والشعوب واللّغات. وتصوّر قيام وحدة بينها هو ضرب من الوهم والمحال. النتيجة المنطقية لذلك هي أن تكون لكلّ قومية دولتها الخاصة بها، ومن هذه الزاوية تكتسب'إسرائيل' شرعيتها، حيث تصبح إحدى الدول القومية في المنطقة'. تونس ليست وحدها من يُريد لها راكبو وحارفو الانتفاضات العربية عن مساراتها، التدحرج نحو حرب أهلية طائفية مدمّرة، إذ يكفي التطلّع نحو أطلس الصراعات الكامنة والمستعرة في منطقتنا العربية، لنكتشف ونقدّر فعلا حجم المأساة وعمقها. من العراق حيث القتل على الهوية والمذهب، إلى لبنان حيث يؤجّج لهب الحرب الطائفية مجددا بين 'سنّة' و'علويين'، إلى الكامن من بؤر احتقان وتوتّر تتناسل بالجزيرة العربية، وإن تعامى من يقنع ذاته أن النار لن تطال هشيمه! لا نجادل مطلقا بخصوص مسؤولية الأنظمة وخطاياها، من خُلع منها ومن أغفله 'الربيع' ومن أضحى متعهّده، في تعميق وتجذّر حالات التفكّك والتشظّي كمعادلة مركزية لإرساء حكمها، ولكن ماذا يشفع لمن بشّر ولا يزال ب'الحكم الرشيد' وبالدول 'المدنية' 'الفاضلة' وهي تتغاضى عن داء يستفحل ينهش ما تبقّى من مجتمعاتنا وينخر ما يظلّ من أسس تماسكها: التعايش في اطار الهوية الوطنية الواحدة؟ يا سادة، الخارطة برمّتها تغرق في بحر من العصبية الدينية والقبلية والإثنية والمذهبية. يا سادة، لن تنفع بعدها الشعارات ولا حسن النوايا، لأنّ الداء إن استفحل سيفتّت المفتّت، وسيحوّله إلى أرخبيل للجيوب الطائفية والعرقية، وليعلم الجميع: لا أحد مُحصّن وإن التحف بدرع صاروخي.