لا أعرف ما قصة العرب هذه الأيام مع التراشق بالأحذية، وكلنا يعرف ما يوحي به الحذاء في المخيلة العربية من إمكانية دوس الوحل والقذارة وما يعنيه من انحطاط ودنو القيمة لمن نشبهه به أو نصوبه نحوه. ففي سوريا، وأمام رائحة الموت التي تزكم الأنوف، تم رمي بشار الأسد ب«صرماية» وهو يلقي خطابه في حالة من الاستهجان والرفض والازدراء للرئيس وأعوانه، كما وقعت أخيرا مشاجرة بين النواب في البرلمان الأردني إثر مناقشة ساخنة لمسودة قانون الانتخابات، وتم تبادل الشتائم واللكمات وتطور الأمر إلى أن وصل إلى قيام أحد النواب ب«خلع» حذائه ورميه على النائب الآخر. ووسط حالة من الغليان والاحتقان في الحملة الانتخابية الرئاسية المصرية، تم التراشق بالألفاظ أعقبه التراشق بالأحذية بين مؤيدي الفريق أحمد شفيق وبين شباب ائتلاف الثورة وحركة 6 أبريل بكفر الشيخ، بل تجاوز الأمر إلى رشق أحمد شفيق ب«الجزمة»، المرشح السابق لرئاسة مصر وآخر رئيس وزراء في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، أثناء الإدلاء بصوته في مقر اللجنة الانتخابية باعتباره «مرشح الفلول» أو «المرشح البونبوني» كما يسمونه. وأعود إلى الوراء، لأستحضر حادثة منتظر الزيدي الذي قام برشق منصة رئيس الوزراء المالكي والرئيس بوش، آنذاك، بالحذاء أو ب«كندرة» عراقية، خلال ندوة صحافية ساخرا من رئيس أكبر دولة في العالم، الذي طالما تفنن في صناعة الموت في العراق وفي أفغانستان، ومضى بحذائه المريح على جماجم وجثث العراقيين، وإن كانت دلالة الحذاء في المجتمع الأميركي غير قدحية، كما أن لعبة «البيسبول» التي طالما عشقها الرئيس الأميركي أسعفته في تجنيب وجهه الإصابة بالصاروخ الحذائي العراقي، الذي ربما يضاهي في خطورته ورمزيته صواريخ «كروز» و«باتريوت»، فهو بالتأكيد لم يستطع أن يجنب العلم الأميركي من لعنة هذا الحذاء، بعدها قام الصحافي العراقي سيف الخياط برمي منتظر الزيدي ب«فردتي حذائه» أثناء ندوة في باريس معترضا على وصف الزيدي لأعمال العنف في العراق بأنها «مقاومة». رمية الحذاء قد تثير سخريتنا وتهكمنا، وقد نهلل ونطبل لها في البداية، وخاصة أن التعبير عن اللارضا والغضب والازدراء من المسؤولين هو مشترك إنساني، لكن ترجمة هذا الإحساس قد تختلف من شعب إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، فهي عند الغربيين مثلا قد تتم بالطماطم والبيض الفاسد والعبث بالأنف.. وأستحضر هنا حذاء الزعيم السوفياتي الشهير نيكيتا خوروتشوف الذي خلعه على مرأى زعماء العالم عام 1960، منهم جون كيندي، وراح يضرب به منصة الأممالمتحدة غاضبا ومنددا بالعدوان الثلاثي على مصر. وقد نكون هللنا سابقا لرمية الحذاء الزيدي ك«فعل بطولي»، فخيبات الإنسان العربي وهزائمه كثيرة، والتوهم بانتصار حقق ولو برمية حذاء، يقدم خدمات نفسية مجربة، ويغذي إحساسنا المتوارث بالفحولة والتفرد والتعالي، ويغذي أيضا تلك الأنا المنهكة واليائسة بالأمل والرضا، وحلمنا بزمن السيادة والانتصار الذي ولّى بلا رجعة. لكن لا بد أن نستحضر أيضا ما يعيشه العالم اليوم من عنف وإرهاب ودم وصور نمطية مشوهة عن الإنسان العربي المسلم، وكيف أن مشهد رمية الحذاء سيكرس صورة همجية للعربي، ربما لا تقل همجية عن فظاعة وظلم النظام السوري والفظاعة الأميركية في سجون غوانتانامو وأبو غريب المحمية بالشرعية الدولية وبمنظمة الأممالمتحدة، وتذكرت حالة «الإسلام فوبيا» التي يعيشها العالم، والخوف من لحية الإنسان المسلم، ومن حجاب المرأة المسلمة، والآن سينضاف إلى هذا كله حالة من «الحذاء فوبيا»، حيث إنه سيصبح من اللازم على كل صحافي قبل أن يدخل إلى ندوة صحافية، أن يخلع حذاءه، فإذا كان نابليون قد قال «لا أخشى ألف مدفع كما أخشى قلم صحافي»، فعليه أن يضيف «وحذاءه أيضا». ومن المستحب لو نصح هؤلاء الرؤساء الغربيون أو العرب القادمون تلك الدول أو الشركات التي تساندهم وتحرك خيوطهم في الخفاء وتدعم حملاتهم الانتخابية، وخاصة إذا كانت شركات عالمية لصنع الأحذية ك«أديداس» مثلا، بصنع أحذية بإمكانات وقائية تكون بردا وسلاما على متلقفيها من الرؤساء. لكن لا يمكن، في الوقت نفسه، أن ننكر مدى الغليان الداخلي وحالتي الحنق والغضب الشديدين اللتين يعيشهما الإنسان العربي، وهو يشم عن قرب رائحة الموت والطائفية والنعرات العرقية في العراق وسوريا.. ورائحة الزيف والكذب في خطابات غربية وعربية مستنسخة تستغل الثورات للسطو على مكتسباتها وخيانة قيمها النبيلة، فالثورات كما يقول نجيب محفوظ «يدبرها الدهاة، وينفذها الشجعان، ثم يكسبها الجبناء»، خطابات للأسف تعد بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحياة أفضل بعد الثورات العربية. ولا شك أن العربي قد أنهكه السير بحذائه على أرض وعرة تزهر جثثا وعنفا وتطرفا وظلما، عوضا عن أن تخضر بعد الثورات العربية، وتزهر حبقا وزيزفون، فآثر أن يلقي بحذاء مدجج بحمم الحقد والغضب في وجه كل من سولت له نفسه قبل وبعد الثورات استمالة وهدهدة مشاعر العرب بخطابات مزيفة ومغناطيسية. لكن على الرغم مما يشعر به كل عربي من ظلم وإهانة، وما يشعر به كل عربي من حقد وازدراء لأميركا وحليفتها إسرائيل، هذا كله قد لا يبرر فعلته، وإن كان لا بد من التراشق بالجزمة أو بالكندرة أو «الصرماية»، فحري به أن يرفع هامة قلمه عاليا وفي أعلى المنابر العربية أو الغربية، أو أن يرفع صوته الانتخابي عاليا من دون تردد ولا حيرة ولا تشويش، أو يحمل بندقية وينضم إلى صفوف المقاومة العراقية أو الفلسطينية أو السورية، فالحذاء مهما علا وشفى غليل حامله فهو قد يمضي إلى الآخر، لكنه سرعان ما يعود يائسا خاوي الوفاض.