تعد الثورة الليبية التي أنهت حكم معمر القذافي من بين أكثر ثورات الربيع العربي قتلى وجرحى ومفقودين، ولئن كان "الشهداء" قد غابوا بأشخاصهم وأبدانهم عن ليبيا فإنهم اليوم حاضرون بقوة في الانتخابات البرلمانية التي تشهدها البلاد. فشهداء الثوار حاضرون في قلوب أهاليهم وذويهم وكل الليبيين الذين كسروا عنهم حاجز الخوف، وفتحوا لهم الباب واسعا لرسم حاضرهم وكتابة مستقبلهم، "بعيدا عمن أذلهم وسلب منهم أبسط الحقوق السياسية والاقتصادية لنحو نصف قرن"، كما يقول أولئك الأهالي. بين انتخابات ليبيا وشهدائها قصة ارتباط وثيقة، فلا تذكر الانتخابات إلا ويذكر "الشهداء"، إنهم بمثابة المؤسسين الأوائل أو المؤسسين الجدد لليبيا اليوم، إنهم -حسب قول الليبيين- من وضع حجر الأساس والبذرة الأولى لهذه الانتخابات، ومهد لها الطريق، وفتح أمامها باب الحصن المنيع الذي ظل مغلقا عقودا من الزمن. وسواء كانوا مسؤولين رسميين أو مواطنين عاديين، فإن الجميع هنا في ليبيا يؤكد أن ما حققته الانتخابات الحالية من نجاح، وما تجاوزته من عقبات ليست بالقليلة ولا بالبسيطة لم يكن ليتحقق لولا قوة الدفع الناعمة والهائلة لشهداء الثورة الذين تملأ صورهم ووصاياهم شوارع طرابلس وعدد من المدن الليبية، لتذكر الناس في كل مرة أن هنالك من بذل وضحى من أجل الحرية لكل الليبيين. بكاء وفرح فطومة عبد الله شقيقة الشهيد محمد عبد الله لم تتوقف عن البكاء طيلة نحو ساعة من وجودها في طابور الاقتراع الطويل، وسط زغاريد الفرح ومظاهر السرور البادية على الجميع، وهي تبكي بأحر من الجمر، ولكن لماذا تبكي الآن حين فرح الآخرون؟ فطومة عبد الله تذكرت وهي تدلي بصوتها أخاها الذي سقط في القتال (الجزيرة نت) تجيب فطومة "إنه أخي شقيقي تذكرته اليوم في هذه اللحظة الخاصة، هذه اللحظة التي يكتب فيها الليبيون تاريخهم"، وقبل أن تواصل الحديث غلبتها الدمعة فاكتفت بقولها "تمنيت اليوم لو كان موجودا بيننا". وتقول إن أخاها اغتالته كتائب القذافي يوم 20 أغسطس/آب 2011 وهو اليوم الذي بدأت فيه معركة تحرير طرابلس بثورة في داخل المدينة، قبل أن يدخلها الثوار عنوة من الخارج، وتشير إلى أن أخاها كان أول من علق علم الثورة في طرابلس، فقتلته كتائب القذافي ليرحل عن زوجة حامل وستة أطفال صغار، انضاف لهم آخر بعد رحيله. ولا ينحصر شهداء ليبيا في الذين سقطوا خلال الثورة الأخيرة، فقتلى مجزرة بوسليم الشهيرة التي وقعت في عام 1996 مثلوا أيقونة الثورة وشرارتها التي ظلت تعتمل في النفوس قبل أن تتفجر في الواقع مع اندلاع ثورات الربيع العربي، كما يقول الليبيون. يوم الوفاء وتقول آمنة عبد النبي العناني شقيقة الشهيد عبد عبد النبي العناني -وهي تقف في طابور التصويت تحرض النساء على الإدلاء بأصواتهن، وتحشد لإنجاح العملية الانتخابية- إنها جاءت اليوم وفاء لأخيها الذي "اغتاله القذافي غدرا، ولكل شهداء الثورة وما قبلها". وتضيف أنه "يوم سعد وفرح لنا جميعا، شهداء ليبيا كان بإمكانهم أن يبقوا مع أطفالهم وزوجاتهم تماما كما فعل الآخرون، ولكنهم اختاروا الله واختاروا التضحية لليبيا". مفوضية الانتخابات -وسعيا منها لإقناع الليبيين بالمشاركة في الانتخابات- لم تجد دعاية أفضل ولا أكثر تأثيرا من تذكير الليبيين بتضحيات الشهداء. وها هي لافتات كثيرة علقت في كل مدن ليبيا تدعو الناس للمشاركة في الانتخابات بعبارات من قبيل "هناك من فقدوا أبناءهم ليمنحوك حق الانتخاب.. انتخب"، "هناك من فقدوا أطرافهم ليمنحوك حق الانتخاب.. انتخب"، "هناك من فقدوا أرواحهم ليمنحوك حق الانتخاب.. انتخب". *تعليق الصورة: ملصق يعرض صورا لقتلى سقطوا إبان الثورة في مدينة جادو بغرب ليبيا