بحثت كثيرا عن وصف أطلقه على اعتقال الناشط الحقوقي والمعارض الجزائري مراد دهينة من طرف الفرنسيين فلم أجد شيئا غير أنه عمل سخيف أحمق يدل على سخافة وتفاهة الذين يقفون وراءه. من هذا المنطلق لم أكن أريد الخوض في هذا الموضوع لولا أن تلك الحماقة تمس كرامة شخص وجد نفسه مضطرا لقضاء أيام مسلوب الحرية، رغم أن أحد رفاقه أخبرني أن معنوياته مرتفعة جدا. اعتقال مراد دهينة جاء اعتمادا على مذكرة توقيف دولية صدرت عن القضاء الجزائري تتهم فيه الرجل بتأسيس مجموعة إرهابية مسلحة في سويسرا بين عامي 1997 و1999، وأيضا بارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون الجزائري. أعرف أن الأمر مثير للضحك لكن كان لا بد من حدوث هذا حتى يتأكد العالم من استقلالية وجدية القضاء الجزائري ومعه السلطات العمومية في التعامل مع ظاهرة الإرهاب وكذا في التواصل مع الشعب الجزائري الذي يصدر القضاة أحكامهم باسمه ويقرر الحكام بما يسمونه تفويضا منه. والأغرب من كل ذلك أن نقرأ في صحف محلية تعاليق وتقارير تنعت مراد دهينة بالإرهابي الخطير وتتبنى رأي السلطات الأمنية فيه دون خجل. سخافة اعتقال مراد دهينة في فرنسا تستند إلى حقيقة أؤمن بها على الأقل وهي أن الناشط الحقوقي ومؤسس حركة رشاد المعارضة لا يمكن أن يسلم إلى السلطات الجزائرية ولا أحد في القضاء الفرنسي يجرؤ على اتخاذ قرار مثل هذا في حق رجل مثل هذا. ولعلي سأفاجئ الكثير من السذج إذا قلت إن السلطات الجزائرية لن تسعد لو استجاب الفرنسيون لمذكرة الاعتقال ببساطة لأنها ستجد نفسها في حرج كبير ولن تعرف كيف تتصرف مع (هدية سامة) من هذا القبيل، تماما مثل هو الحال مع الملياردير رفيق مؤمن خليفة مع فارق في مسار الرجلين وخلفيتي قضيتيهما. فالأول سيحرج النظام مع الخارج على الخصوص بينما إحراج حضور الثاني في الجزائر يكمن في أن كثيرا من الذين كانوا أو لا يزالون في مناصب مسؤولية متورطون في ما يسمى بفضيحة القرن والجزائريون جميعهم يعلمون ذلك. لماذا إذن اعتقال مراد دهينة، علما أنها ليست المرة الأولى التي يزور فيها الرجل مهد الحريات وحقوق الإنسان؟! يقول الدبلوماسي الجزائري السابق محمد العربي زيتوت إن ثلاثة أسباب على الأقل تقف وراء اعتقال رفيقه مراد دهينة، أولها أنه جاء رد فعل على رفض حركة رشاد المطلق التعامل إيجابيا مع محاولات النظام الجزائري فتح قنوات للحوار مع الحركة المعارضة. السبب الثاني هو المظاهرة التي نظمتها الحركة بمناسبة الذكرى العشرين لوقف المسار الانتخابي والديمقراطي في الجزائر وهي المظاهرة التي سببت، حسب محدثي، إزعاجا كبيرا جدا للنظام الحاكم في الجزائرولفرنسا على السواء. كما أن هذا الاعتقال يأتي أيضا بمثابة رد فعل على المضايقة القضائية التي تعرض لها وزير الدفاع الجزائري السابق الجنرال خالد نزار قبل أسابيع عندما استدعاه القضاء السويسري لمساءلته بناء على دعاوى قضائية رفعها ضده جزائريون يتهمونه بارتكاب جرائم ضد حقوق الإنسان في حقهم. لا أعتقد أن تحرشا مثل هذا في حق رجل قضى أزهى سنوات عمره ناشطا ومنفيا خارج بلاده سيثنيه عن مواصلة نضاله من أجل إظهار الحقيقة في الحقبة الدموية التي مرت بها الجزائر قبل عشرين سنة، كما أن مثل تلك التهم الموجهة إليه لن تجعل الجزائريين يقتنعون يوما أن رجلا مثل مراد دهينة يمكن أن يكون إرهابيا أو حتى يدعم الإرهاب والفوضى في بلده، وهو ليس أول ولا آخر من ألصقت به مثل هذه التهمة الثقيلة بناء على ملفات قضائية وقد اتضح الأمر في كثير منها أنها كانت تلاعبا سخيفا بالقضاء وبأحاسيس الجزائريين، وإلا كيف نفسر إصرار السلطات في الجزائر على ملاحقة معارضيها السياسيين بتلفيق التهم الثقيلة ضدهم بينما الذين يشهد الناس جميعا أنهم كانوا يقودون التنظيمات المسلحة ويتبنون أعمال القتل ينعمون الآن بحماية قضائية وسياسية وأمنية كاملة توفرها لهم السلطات العمومية دون أي سند قانوني أو شرعي، وكم من القضايا التي لا تزال معلقة في أروقة المحاكم دون أن يستطيع القضاء الفصل فيها بسبب ثغرات فاضحة فيها. ما هي الخدمة التي يقدمها الفرنسيون للسلطة الحاكمة في الجزائر من وراء اعتقال مراد دهينة؟ لا أدري بالضبط إن كانت هناك خدمة أو مساومة ما أو لعبة سخيفة أخرى، لكن الأكيد هو أن الفرنسيين بفعلتهم تلك ارتكبوا عدة خطايا ستبقى نقاطا سوداء في سجل دولة حقوق الإنسان والحريات العالمية، لعل أبسطها أنهم تعمدوا إهانة قضاء دولة جارة وشريكة قوية لفرنسا، وكأن القضاء السويسري صار عاجزا عن تعقب المجرمين والإرهابيين وتحديدهم بل إن الأمر وصل بسويسرا إلى حماية وإيواء أشخاص متورطين في ارتكاب جرائم من أخطر جرائم القرن الواحد والعشرين، هل يعقل هذا؟ رجل يأتي من الجزائر لاجئا وينجح في الضحك على الدولة التي استضافته ويخطط لزعزعة أمنها واستقرارها، رجل يفلح في اختراق أمن الشرطة السويسرية وفي النهاية يأتيها من الجزائر من يدلها على تفاصيل المؤامرة. فرنسا باعتقالها مراد دهينة سقطت في تناقض صارخ من شأنه أن يجلب لها العار، فهي تحاول منذ عام أن تثبت للعرب وللعالم أجمع أنها جديرة بالدفاع عن حقوق المضطهدين في البلاد العربية وأنها تقود قاطرة التغيير في المنطقة وتعمل من أجل إرساء أنظمة حكم تستمد شرعيتها من إرادة شعوبها، مقابل ذلك تجرؤ على توقيف واحد من رموز النضال الحقوقي ضد واحد من أكثر الأنظمة العربية فسادا واستبدادا وتلاعبا بإرادة شعبه. نظام الحكم في سورية الأسد يتهم المنتفضين ضده بالإرهاب أيضا، وبرهان غليون رئيس المجلس الوطني المقاوم لذلك النظام يعيش في فرنسا من سنين طويلة، فهل ننتظر من الفرنسيين أن يعتقلوه يوما ويسلموه للسلطات في دمشق مثلما يحصل الآن مع مراد دهينة، أم إن النظام الجزائري مكتوب عليه أن يبقى إلى الأبد تحت الحماية الفرنسية؟!