(جاء يساعده في حفر قبر أبيه فهرب له بالفأس)، لعل هذا المثل الشعبي المغاربي أبلغ تفسير للموقف شبه الرسمي الجزائري على تصريحات الوزير الأول التركي رجب طيب أردوغان الأسبوع الماضي عندما أثار قضية جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر أيام الاحتلال ردا على تبني مجلس الشيوخ الفرنسي مشروع قانون يقضي بتجريم إنكار ما يسمى جرائم الإبادة الجماعية التي تعرض لها الأرمن على أيدي قوات الإمبراطورية العثمانية خلال العقد الثاني من القرن الماضي. أردوغان غضب كثيرا من تخطي البرلمان الفرنسي حاجز التهديد والتلويح بتجريم إبادة الأرمن، ودعا الرئيس الفرنسي ساركوزي إلى الاهتمام أولا بالجرائم التي ارتكبتها بلاده ضد أبناء الشعب الجزائري خلال الحقبة الاستعمارية المباشرة التي امتدت قرنا وثلاثين عاما. الوزير الأول التركي قال كلاما ابتهج له كثير من المثقفين والشبان الجزائريين عبر وسائل الإعلام وعبر مختلف شبكات التواصل الاجتماعي، ومصدر الابتهاج أن أردوغان وقف إلى جانب الجزائريين وقال كلمة حق في وجه فرنسا الرسمية التي بقيت مصرة على تجاهل فعلتها السوداء في الجزائر وأنكرت على الجزائريين أي حق في مطالبة فرنسا بالاعتذار أو سن قانون يشير بسوء إلى حقبة الحضور الفرنسي المباشر في الجزائر رغم أن فرنسا سبقت الجزائريين في خطوة استفزازية إلى سن قانون يقضي بتمجيد أفعال فرنسا الاستعمارية واعتبار ذلك مساهمة في إخراج الشعوب المستعمَرة من ظلمات الجهل والبدائية إلى نور الحضارة والرقي. أنا شخصيا لم أرقص لما سمعت تصريحات الوزير الأول التركي، أوّلا لأنني لا أفقه شيئا في هذا الفن وثانيا لأنني لم أجد شيئا مثيرا أو جديدا في كلامه، كما قال آخرون إنه لم يتفوه بما قال حبا في الجزائر ولا تعاطفا مع ملايين الضحايا الذين سقطوا تحت آلة السحق الاستعمارية الفرنسية بل كان فقط يريد إغاظة فرنسا والدفاع عن بلده. لكن أن يصل الأمر إلى توجيه اللوم إلى أردوغان وأن يُطلب منه عدم التدخل في أمر يخص الجزائر فذلك ما دفعني إلى الرقص غصبا عني. المتحدث الرسمي باسم حزب جبهة التحرير الوطني أحد الأحزاب الثلاثة المشاركة في الحكم قال معقبا على تصريحات أردوغان المتعلقة بجرائم فرنسا الاستعمارية في الجزائر إن ذلك الكلام لم يكن سوى تعبير عن مطلب تاريخي للجزائريين. وأضاف الرجل في تصريح خاص لصحيفة (الشروق اليومي) المحلية إن أردوغان (ليس وصيا على الجزائريين، حتى يقوم بدور الوصاية في قضية أعتقد أنه لا يختلف حولها جزائريان، مهما كان انتماؤهم السياسي أو الحزبي). للقراء الكرام الذين لا يتابعون كثيرا الملف الجزائري أذكر أن الحكومة الجزائرية وقفت بحزم ضد كل محاولات سن قانون يقضي بتجريم الاستعمار الفرنسي، وقد انتقد الوزير الأول الجزائري (لا الفرنسي أو التركي) محاولة لبعض نواب برلمان بلاده تهدف إلى إصدار مثل هذا النص القانوني وقال وقتها إن تلك محاولة للابتزاز السياسي، وأمام إصرار النواب استعمال حقهم الدستوري في اقتراح القوانين وبعد تقديم نص مقترح قانوني بهذا الشأن لدراسته على مستوى الحكومة والمجلس الوزاري ثم إعادته إلى البرلمان للمصادقة عليه تجاهلت الحكومة تماما الموضوع دون أي مبرر موضوعي. رئيس البرلمان تحدث في مناسبات مختلفة عن اعتبارات دبلوماسية تدفع الحكومة الجزائرية إلى عدم التورط في إصدار قانون مماثل وفهم من فهم أن إقدام الجزائر على خطوة من هذا النوع ضد فرنسا من شأنها أن تعود عليهم بالوبال، مبرر لم يستسغه الجزائريون أو كثير منهم ووجدوا فيه تخاذلا وارتباكا من حكومة بلد يدعي السيادة واستقلالية قراره. مبررات الرسميين ظلت غامضة حتى جاءت تصريحات المتحدث باسم حزب جبهة التحرير الوطني لتزيدها غموضا مغلفا بنكهة استفزازية. يقول قاسة عيسى، وفق رواية الصحيفة الجزائرية، إن إصدار قانون في الجزائر يجرم فرنسا الاستعمارية من شأنه أن يدفع الفرنسيين إلى الدفع باتجاه تصنيف جبهة التحرير الجزائرية التي كانت تقود حرب التحرير آنذاك كمنظمة إرهابية، مشيرا إلى تحركات برلمانية في فرنسا نحو هذا الاتجاه قد تفضي إلى منع مجاهدي حرب التحرير من دخول التراب الفرنسي على اعتبار أنهم كانوا ينتمون إلى منظمة إرهابية. هكذا إذن؟ الجزائريون الذين ناضلوا وكافحوا من أجل استقلال بلادهم يخشون أن يصنف نشاطهم ذاك ضمن خانة العمل الإرهابي، وكأني بمروجي هذه المبررات السخيفة يقولون إن الماريشال بيتان أو الجنرال شارل ديغول (مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة المستمرة إلى اليوم) هما أيضا إرهابيان لأنهما قادا حرب تحرير بلادهما من الاحتلال النازي وحكومة فيشي الفرنسية العميلة. ومع كل هذا دعونا نسلم جدلا أن أية مبادرة جزائرية بشأن تجريم الاستعمار الفرنسي ستكون وبالا على الجزائريين، فهل توجد في تصريحات أردوغان إشارة إلى السعي نحو وضع قانون يجرم فرنسا الاستعمارية، بل هل أردوغان برلماني أو سياسي جزائري؟ هذا رجل تركي يناطح فرنسا فما دخلنا نحن الجزائريين في ذلك؟ لا تفسير إلا أن الذي يهاجم أردوغان فرنسي أو يخشى على سمعة فرنسا التاريخية، لا بل حتى فرنسا لم تهاجم خصمها المفترض بمثل ذلك الكلام الصادر عن قيادي حزب جبهة التحرير الجزائرية وسياسيين آخرين من يدورون في فلك السلطة. الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ووزير خارجيته آلان جوبيه كانا أرحم على الوزير الأول التركي رجب طيب أردوغان من الجزائريين، فقد قال ساركوزي ردا على تصريحات حفيد العثمانيين (أحترم قناعات أصدقائنا الأتراك، إنه بلد كبير، وحضارة كبيرة، وعليهم احترام قناعاتنا في المقابل)، مضيفا أن (فرنسا لا تعطي دروسا لأحد لكنها لا تعتزم تلقي دروس من جهة أخرى)، ثم وجه دعوة إلى (الحفاظ على برودة الدم والهدوء). ومثله قال جوبيه مبرزا أهمية العلاقة القائمة بين فرنسا وأصدقائها الأتراك، ثم أعرب الوزير الفرنسي عن عدم رضاه بالخطوة التي اتخذها أعضاء برلمان بلاده بمصادقتهم على قانون تجريم إنكار إبادة الأرمن (لم تكن مبادرة مناسبة، لكن البرلمان صادق)، ودعا إلى إعادة الأمور إلى طبيعتها مع مرور الوقت. كثير من الجزائريين يعرفون لماذا تصر حكوماتهم المتعاقبة على الحفاظ على علاقات الود مع فرنسا قائمة ولو كانت على حساب مصلحة البلد وشعبه، ذلك أن ما يجمع حكام الجزائربفرنسا أهم وأمتن وأكبر مما يجمعهم بالبلد الذي يحكمونه، لست أنا الذي يقول هذا، ومع ذلك أرى أن لو كان رجال ونساء الحكم في الجزائر يعتقدون حقا أن جرائم فرنسا الاستعمارية تستحق الإدانة لفرحوا، في سرهم على الأقل، بتصريحات أردوغان ولم يسارعوا إلى إعلان تذمرهم منه، بل لو كانوا فعلا يريدون الحصول من فرنسا على اعتذار رسمي على ما ارتكبوه في حق ملايين الجزائريين لأرسلوا، ولو سرا، إلى أردوغان من يقول له لقد أحسنت قولا، ويقترحوا عليه تعاونا، ولو غير معلن، يفضي إلى تجريم الاستعمار الفرنسي، وهو ما أرى أن بإمكان تركيا إن كانت صادقة في غضبتها وبكائها على ضحايا الاستعمار الفرنسي في الجزائر أن تفعله لوحدها عبر قانون يصادق عليه البرلمان التركي تماما مثلما فعل الفرنسيون الذين ليس لهم ارتباط مباشر بالأرمن. أما إذا أراد حكام الجزائر اتخاذ خطوة أشد حزما وتقربهم قليلا من شعبهم (وهذا ما أشك فيه) فبإمكانهم أن يدفعوا البرلمان إلى المصادقة على قانون تجريم الاستعمار، وعندما يغضب أسيادهم في فرنسا ويبدأوا في إطلاق تصريحات الوعيد والتهديد أقترح عليهم أن يستعيروا كلمات من قاموس الأستاذين ساركوزي وجوبيه، فيقول بوتفليقة وباللغة الفرنسية أيضا (أحترم قناعات أصدقائنا الفرنسيين، فرنسا بلد كبير، وحضارة كبيرة، لكن على أصدقائنا احترام قناعاتنا في المقابل)، ويضيف أن (الجزائر لا تعطي دروسا لأحد لكنها لا تعتزم تلقي دروس من جهة أخرى)، ثم يوجه دعوة إلى (الحفاظ على برودة الدم والهدوء). ومثله يقول مراد مدلسي مبرزا أهمية العلاقة القائمة بين الجزائر وأصدقائها الفرنسيين، ثم يعرب عن عدم رضاه بالخطوة التي اتخذها برلمان بلاده بمصادقته على قانون تجريم الاستعمار الفرنسي بالقول (لم تكن مبادرة مناسبة، لكن البرلمان صادق)، وبعدها يدعو إلى إعادة الأمور إلى طبيعتها مع مرور الوقت. هل يمكن أن يفعلها الرئيس بوتفليقة وزملاؤه؟ ليس مستحيلا إذا كان الهدف هو الدفاع عن مصالح البلد والشعب لا عن مصالح شخصية ومناصب وهمية.