قضى العقيد معمر القذافي أطول فترة حكم، مقارنة بنظرائه في العالم العربي وأفريقيا، إذ لم يكن قد تجاوز السابعة والعشرين من عمره عندما أطاح بالملك إدريس السنوسي في انقلاب عسكري وأقام على أنقاض الحكم الملكي الموالي للغرب نظاما جديدا أطلق عليه تسمية "جماهيرية". ولد القذافي عام 1942 في منطقة سرت وتلقى تعليمه في مدرسة في سبها بجنوب البلاد، ثم انتقل منها للدراسة في جامعة بنغازي، لكنه لم يكمل دراسته الجامعية لانضمامه إلى الجيش. وكان أيام شبابه معجبا بالزعيم المصري جمال عبدالناصر وبنظرته للقضايا القومية وقد شارك القذافي في المظاهرات التي عمت البلدان العربية احتجاجا على الهجوم على مصر بعد تأميم القناة عام 1956. وبدأ وضع خطة الانقلاب على الملكية وهو طالب في الكلية العسكرية، وتلقى تدريبا عسكريا إضافيا قبل عودته إلى مدينة بنغازي الليبية حيث قام بالانقلاب العسكري في 1 سبتمبر 1969. وضع القذافي فلسفته السياسية في السبعينات في كتابه المعروف باسم "الكتاب الأخضر" الذي اعتبره طريقا ثالثا "لا إشتراكيا ولا رأسماليا". وأثار حنق الولاياتالمتحدة وبريطانيا عندما طرد قواتهما التي كانت موجودة في ليبيا وأمم النفط الذي كانت تستثمره شركات أجنبية. وبالرغم من أنه حكم البلاد حكما عسكريا، إلا أنه استحدث عام 1977 نظاما أطلق عليه "الجماهيرية" أو "دولة الجماهير" بمعنى أن السلطة توضع بيد الآلاف من اللجان الشعبية، واستفاد من الثروة النفطية في تحسين الوضع الاجتماعي. لكن حكمه تعامل بقسوة بالغة مع أي شكل من أشكال المعارضة. زعيم أفريقي روج القذافي لما وصفه بنظرية الطريق الثالث التي كان يعتقد أنها حل وسط بين الرأسمالية والاشتراكية في السبعينيات. وقد رفع القذافي في بداية عهده شعار توحيد الأمة العربية وتحقيق أهدافها، وقدم نفسه قائدا قوميا للعرب على غرار الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر. لكنه سرعان ما وجد أن تلك الأحلام صعبة التحقيق فضاق ذرعا بالعرب وأدار لهم ظهره ويمم وجهه شطر القارة الإفريقية. وبدأ يطرح نفسه كزعيم أفريقي. وكان قبل ذلك قد أثار الكثير من الجدل بسبب التدخل في شؤون قد لا تهم ليبيا مباشرة، وخاصة في دول القارة الأفريقية. وقادت تلك السياسات في النهاية إلى سلسلة من الانتكاسات بدء بهزيمة مخزية للقوات الليبية في تشاد عام 1987 إضافة إلى مواجهة عنيفة مع الولاياتالمتحدة بصورة خاصة ومع دول الغرب بصورة عامة. وفي النهاية وجدت ليبيا نفسها في عزلة دولية كاملة خاصة بعد فرض الأممالمتحدة عقوبات عليها. لوكيربي وقد قطعت واشنطن علاقاتها التجارية مع ليبيا بعد غزوها لتشاد في عام 1973 وأسقطت الولاياتالمتحدة طائرة ليبية اعترضت طائراتها فوق خليج سرت. كما قطعت بريطانيا علاقاتها الدبلوماسية مع الجماهيرية عام 1984 بعد إطلاق حراس الأمن في مقر السفارة الليبية في لندن النار على متظاهرين أمامها فقتلوا شرطية بريطانية. وفي عام 1986 قصفت الطائرات الأمريكية مواقع عسكرية ليبية ومناطق سكنية في طرابلس وبنغازي، وأعلن القذافي مقتل هناء ابنته بالتبني في هذه الغارات. وبررت واشنطن القصف بأنه رد على صلة ليبيا بتفجير ناد ليلي في برلين يرتاده أفراد من القوات الأمريكية في ألمانيا. لكن العلاقات الليبية الدولية اتخذت منحى خطيرا بعد تفجير طائرة الركاب التابعة لشركة "بان أمريكان" الأمريكية فوق بلدة لوكيربي الاسكتلندية عام 1988، وبعد أن رفض القذافي تسليم ليبيين مشتبه في علاقتهما بالحادث. فقد فرضت الأممالمتحدة عام 1992 عقوبات على الجماهيرية الليبية في محاولة لإجبارها على تسليم أمين خليفة فحيمة وعبد الباسط المقراحي المتهمين بتفجير لوكيربي لمحاكمتهما دوليا. واحتاج الأمر نحو سبع سنوات كي يرضخ القذافي إلى هذا المطلب ويسلم المتهمين لمحاكمتهما في هولندا وفق قانون اسكتلندا حيث وقع حادث التفجير الذي أودى بحياة 270 شخصا. وقد حوكم الليبيان بالفعل وصدر في بداية عام 2001 حكم بالبراءة على فحيمة بينما صدر على المقراحي حكم بالسجن مدى الحياة في أحد سجون اسكتلندا لكن أفرج عنه قبل عامين لدواع طبية بعد إصابته بالسرطان كما أعلنت بريطانيا. وتعزز انفراج الأزمة عندما وقعت ليبيا في أغسطس/ آب عام 2003 على صفقة لتعويض ذوي الضحايا ال 270 الذين لقوا حتفهم في حادث لوكيربي، بلغت 2,7 مليار دولار، بعد إعلان ليبيا رسميا مسؤوليتها عن التفجير كما ورد في رسالة بعثتها طرابلس إلى الأممالمتحدة. وفي أيلول 2003 صوت مجلس الامن الدولي لصالح رفع العقوبات عن ليبيا. وبعد ذلك أعلنت ليبيا تخليها عن برنامج أسلحة الدمار الشامل وتعويض ذوي ضحايا طائرة الركاب الفرنسية التي فجرت عام 1989 فوق الصحراء الأفريقية، وكذلك تعويض ضحايا انفجار النادي الليلي في برلين. الثروة النفطية وتحسنت صورة القذافي لدى الغرب وتحول من زعيم "منبوذ" إلى زعيم مقبول ولكن غير مضمون الجانب. وبذلك بدأت ليبيا في العودة إلى المجتمع الدولي واستقبل زعيمها القذافي رئيس الوزراء البريطاني، توني بلير، في مارس/ آذار 2004 في أول زيارة من نوعها منذ عام 1943، وتلى ذلك قرار الرئيس الأمريكي، جورج دبليو بوش، رفع الحظر التجاري عن ليبيا. لكن نار الاحتجاجات التي اندلعت في العالم العربي أواخر عام 2010 وارتفاع وتيرتها بعد الإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي والرئيس المصري حسني مبارك، امتدت إلى ليبيا للمطالبة بإنهاء نظام القذافي. ووقعت اشتباكات بين القوات الليبية التابعة للعقيد القذافي وقوات المعارضة المسلحة التي تمركزت في شرق البلاد في البداية ثم امتدت باتجاه الغرب، لكن القوات الحكومية تمكنت من وقفها وكادت أن تحاصرها في مدينة بنغازي، لولا العمليات التي نفذها التحالف الغربي إثر قرار لمجلس الأمن بفرض حظر جوي على البلاد. وتمكنت الطائرات الصواريخ البريطانية والفرنسية بدعم أمريكي من تسديد ضربات موجعة للقوات الليبية، مما ساعد المعارضون المسلحون على استئناف تقدمهم نحو الغرب. وبدأت قوات المعارضة يوما بعد يوم في الزحف نحو العاصمة طرابلس والسيطرة على المدن الرئيسية المؤدية إليها حتى جاء يوم الحادي والعشرين من أغسطس 2011 عندما تدفقت قوات المعارضة إلى وسط العاصمة. واندلعت اشتباكات حول مقر القذافي في باب العزيزية قبل أن تنهار قوى قوات القذافي معلنة بذلك سقوط وانتهاء حكم أطول الزعماء العرب حكما. ولاحقت القوات التابعة للمجلس الوطني الانتقالي القذافي إلى المناطق التي كان يعتقد بتحصنه فيها، وفرضت حصارا شديدا على مسقط رأسه سرت ودارت معارك عنيفة بين هذه القوات وكتائب القذافي الموالية له حتى أعلن انتهاء سقوطها في قبضة قوات المجلس ومقتل القذافي 69 عاما.