ثلاثة أيام فقط فصلت بين خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس وخطاب الرئيس السوري بشار الأسد، لكن كم كان الفارق كبيرا بينهما. فمن ناحية سمعنا ملك المغرب يخاطب شعبه أكثر من خمس مرات بشعبي العزيز ويقول له أنا «خديمك الأول»، قبل أن يعلن عن إصلاحات دستورية محددة ومفصلة لتوسيع صلاحيات الحكومة والبرلمان ولتكريس استقلال القضاء، أكد أن هدفها توطيد دعائم نظام «ملكية دستورية ديمقراطية برلمانية واجتماعية». من الناحية الأخرى سمعنا الرئيس الأسد في خطابه بجامعة دمشق يمزج الدعوة إلى حوار وطني بالحديث عن مؤامرة وبوصف المحتجين بالمخربين، بل إنه اعتبر أن ما يحصل اليوم في سوريا «لا علاقة له بالتطوير والإصلاح، بل يتعلق بالتخريب». صحيح أنه تحدث عن الحوار الوطني باعتباره عنوان المرحلة المقبلة، كما تطرق إلى مسألة التعديلات الدستورية وقانون الأحزاب لكنه لم يقدم اقتراحات محددة أو صورة واضحة، بل ترك الأمور ملتبسة ومبهمة. ورغم حديثه عن أن الحل للأزمة يجب أن يكون سياسيا، فإنه بدا وكأنه ينقض هذا الكلام في فقرات أخرى من الخطاب شدد فيها على أنه «لا يوجد حل سياسي مع من يحمل السلاح»، وبأنه «لا إصلاح عبر التخريب والفوضى». قد يقول قائل إن المقارنة بين الخطابين غير مناسبة لأن ظروف البلدين مختلفة، وأحداثهما غير متطابقة وإن تشابهت في أن كليهما يشهد احتجاجات ومظاهرات تطالب بإصلاحات وتغييرات. لكن الواقع أن هناك الكثير الذي يستدعي مثل هذه المقارنة، مع الإقرار بأن الاحتجاجات الشعبية ليست صورة مستنسخة طبق الأصل في كل مكان تحدث فيه، لأن لكل بلد ظروفه، ولكل شعب طبيعته وتطلعاته. ما يوجب المقارنة هو أن الملك محمد السادس والرئيس بشار الأسد توليا الحكم في فترة متقاربة، وفي سن متقاربة، وفي ظروف متشابهة، طغى خلالها الحديث عن ظهور قيادات شابة جديدة في المنطقة تحمل وعودا بالإصلاح والتغيير. فالملك محمد السادس اعتلى العرش بعد وفاة والده الملك الحسن الثاني في عام 1999، وذلك في إطار نظام ملكي واضح يحدد ولاية العهد وآلية انتقال السلطة. أما الرئيس بشار فقد تسلم الحكم بعد وفاة والده حافظ الأسد عام 2000 في ظل نظام جمهوري لا ينص على مبدأ التوريث، بل يفترض أنه لا يقبله أصلا. رغم ذلك فقد رحب كثيرون ببشار الأسد واستبشروا بأنه قد يقود سوريا نحو إصلاحات حقيقية تنقلها نحو الانفتاح والتعددية. المغرب واصل السير في طريق الانفتاح، وأسس طريق «الإنصاف والمصالحة» لطي صفحات من الماضي وللانفتاح على المعارضين من كل ألوان الطيف السياسي، فتولى معارضون معروفون رئاسة الحكومة، وتعاقبت أحزاب على تشكيلها. صحيح أن الإصلاحات تباطأت، وأن المغاربة يطالبون اليوم بالمزيد منها وينتقدون بعض الممارسات في الساحة السياسية، ويريدون المزيد من الشفافية ومحاربة الفساد واستقلال القضاء، لكنهم يلتفون حول ملكهم، ولا يريدون إلغاء الملكية بل يطلبون إصلاحات لجعلها ملكية دستورية، بينما يريدها بعضهم ملكية برلمانية. أما في سوريا فقد بدأت بعض الخطوات في مجال الانفتاح الاقتصادي، وأطلقت وعود للإصلاح السياسي بقيت دون تنفيذ. ويسجل للرئيس بشار الأسد أنه اعترف بأن نظامه تأخر في الإصلاح مما أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه اليوم من احتجاجات عمت كل المناطق تقريبا. ولو كان أتبع إقراره بالتأخير منذ خطابه الأول الذي تحدث فيه عن الأحداث، بسلسلة من الإصلاحات السريعة، وبحوار وطني يضم كل أطياف المجتمع وكل ألوان المعارضة، وبإطلاق عملية تعديل الدستور، لكانت سوريا تفادت «الأيام الصعبة» التي تحدث عنها في خطابه الأخير، ولما واجه الناس معاناة الأشهر الثلاثة الماضية وكل الدماء التي سالت. فالمحتجون في سوريا خرجوا مطالبين بالحرية والكرامة، وبالإصلاح السياسي، وباجتثاث الفساد، لكنهم لم يهتفوا في البداية ضد الرئيس ولم ينادوا بإسقاط النظام. لجوء النظام إلى القبضة الأمنية وإلى أسلوب القمع الشرس للاحتجاجات هو الذي أوصل سوريا إلى «اللحظة الفاصلة»، ومناظر القتل وصور التعذيب ومشاهد الاعتقالات الواسعة هي التي جعلت الاحتجاجات تصعد لهجتها وتطالب بإسقاط النظام. في خطابه أول من أمس في جامعة دمشق فشل الرئيس بشار مرة أخرى في فهم رسالة المحتجين، وفي احتواء غضب الشارع، بل وفي تبني إصلاحات واضحة ضمن جدول زمني محدد، وفي تبني خطوات عاجلة توفر الأجواء للحوار الوطني الذي تحدث عنه باعتباره عنوان المرحلة وأرضية المخرج السياسي. فلغة الخطاب بدت مربكة، ورسائله متضاربة، مثلما أن الحديث عن الإصلاحات جاء مبهما ومغلفا بلغة الملاحقة والمحاسبة والمحاكمة للمحتجين الذين وصفهم بالمخربين واعتبرهم متآمرين. يضاف إلى ذلك أن الخطوات التي أعلنها النظام سابقا وبدت إيجابية، نقضتها الممارسات على الأرض. فالإعلان عن رفع قانون الطوارئ لم يوقف الحملات العسكرية والأمنية، والعفو العام لم ينهِ الاعتقالات الواسعة ولم يعنِ إطلاق كل المعتقلين السياسيين. المغرب في الناحية المقابلة لم يتبن العنف الذي تبنته سوريا في مواجهة الاحتجاجات، كما أن الملك قرر التجاوب مع مطالب الإصلاحات بتقديم وعود محددة منذ خطابه في مارس الماضي. وانبرى لتجسيد تلك الوعود بخطوات ملموسة مكنته من إعلان إصلاحات دستورية محددة وواضحة، تطرح على استفتاء شعبي الشهر المقبل. فوق ذلك فإن الخطاب تبنى لغة تصالحية لا تخون المحتجين، ولا تقلل من شأن مطالبهم، أو تعتبر ما يحدث مؤامرة خارجية. بل إن الإصلاحات الدستورية المعلنة ذهبت أبعد من ذلك في تقنين حقوق المواطنين بتضمينها بندا يكفل كافة حقوق الإنسان بما في ذلك «ضمان شروط المحاكمة العادلة، وتجريم التعذيب، والاختفاء القسري، والاعتقال التعسفي، وكل أشكال التمييز والممارسات المهينة، وكذا ضمان حرية التعبير والرأي، والحق في الولوج إلى المعلومات». لقد قال الرئيس بشار في خطابه الأخير «إن قوة الدولة من قوة الشعب، وقوته من كرامته ومن حريته»، وليته ترجم هذا القول إلى خطوات ملموسة ومحددة للإصلاح وللتجاوب مع مطالب الناس، فلو فعل لكان خطابه يوحي بالأمل مثل ما فعل خطاب الملك محمد السادس.