سواء أقدم على ذلك بمحض إرادته، أو أجبرته القوى المطاعة في النظام الجزائري، فإن ترشيح أو ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لعهدة رابعة سيعرض حتما رصيده السياسي الذي راكمه بذكائه ودهائه وكفاحه، على مدى أكثر من نصف قرن، للتآكل إن لم يكن التلف؛ لأسباب واعتبارات بل إكراهات، اجتهدت في شرحها الأقلام ووسائل الإعلام العربية والأجنبية خلال الأشهر الأخيرة، بلغت ذروتها عقب إصابة الرئيس بجلطة دماغية، نقل على إثرها للعلاج في فرنسا حيث قضى أكثر من 80 يوما، عاد بعدها في شبه سرية إلى الوطن، محمولا على كرسي متحرك أو مستندا إلى الممرضين وحراسه. ويشكل الوضع الصحي الحالي، للرئيس مشكلا سياسيا وإنسانيا مؤرقا، يصعب التغلب عليه ولا تنفع معه المناورات وأساليب الدهاء التي أتقنها "سي عبد القادر المالي" خلال مساره السياسي الزاخر بالأحداث والتقلبات؛ ما يعني أن العهدة الرئاسية الرابعة لن تكون هادئة مثل سابقاتها وخاصة الأولى والثانية، اللتين حقق فيهما الرئيس إنجازا سياسيا مهما فشل فيه الذين توالوا على المنصب قبله، ونعني "الوئام الوطني" وانهاء متدرج للاقتتال الدموي أو ما يسميه الجزائريون العشرية السوداء. ومن البين أن الرئيس الذي يعاني من أمراض سابقة، وهو في سن السابعة والسبعين، يستحيل، وفق قانون الحياة، أن يكون سليم العقل والبدن في سن الثمانين على سبيل المثال. وحتى اذا استعاد العافية كليا أو جزئيا بفضل العلاج المتطور، فإنه سيكون ملزما بالتقيد بأوامر الأطباء، بأن يتجنب الإرهاق الجسمي والذهني وأن لا يتنقل كثيرا داخل وخارج البلاد. هل تقبل الجزائر وهي في عنفوان الشباب أن يحكمها رئيس كهل معلول على مدى خمس سنوات؟ وما ذا يمكن أن يحققه الرئيس لشعبه في ظل أزمات اجتماعية واقتصادية وبطالة وفساد مستشري. مشاكل تواجه البلاد من كل جهة وفي أجواء سياسية سائبة لدرجة أن ما يقرب من 80 طامعا في الرئاسة والإقامة في قصر المرادية، سحبوا استمارات الترشيح للمنصب الرفيع؟ إلى متى ستستمر جبهة التجرير الجزائرية في تأمين الوقاية السياسية للرئيس من ضربات معارضين سيزداد عددهم خاصة وقد طالت "الجبهة" صراعات داخلية محتدمة بين أجيال وتيارات المحافظين والمجددين والتقويميين، الأمر الذي يفسر سبب عدم ترشح بوتفليقة، وهو رئيس الحزب العتيد، باسمها؟ أظهرت فترة مرض الرئيس وغيابه عن الوطن، بعض عيوب ومزايا النظام الجزائري، فقد أضحى جليا أن المؤسسة العسكرية ما زالت تعتبر نفسها، وهذا من حقها، ضامنة الاستقرار في البلاد؛ تمسك بخيوط اللعبة وأوراقها ولكنها في نفس الوقت، لا تريد أن تنزل إلى الشارع كطرف مكشوف الوجه منافس للمدنيين على الصدارة السياسية. لقد فشلت إلى حد جد كبير محاولاتها السابقة في الحكم المباشر، فاضطرت للاستعانة بخدمات الرئيس بوتفليقة،الذي ظل الاعتقاد يساوره دائما أنه كان الأجدر بخلافة الراحل هواري بومدين. ولما نودي عليه من الخارج، اشترط بوتفليقة، اتفاقا غير مكتوب مع المؤسسة العسكرية، منحته بموجبها الحق في تطبيق برنامجه لإخراج البلاد من الأزمة السياسية. هل مازال الرئيس المريض، ورقة صالحة للاستعمال من طرف القوة الحاسمة والمتحكمة في مفاصل النظام السياسي بالجزائر، ريثما ترتب أوضاعها وتبحث عن رئيس بديل بمواصفات شبيهة بتلك التي يتصف بها بوتفليقة ؟ هذا الاحتمال وارد من وجهة نظر محللين، وحجتهم أن بوتفليقة، استجاب على مضض لاستغاثة أو نداء المؤسسة العسكرية لإكمال المهمة الوطنية التاريخية التي اضطلع بها بعد عودته من المنفى السياسي؟ والمؤكد أن كل طرف يفكر في حساباته ومصالحه: بوتفليقة يريد أن يختم حياته السياسية وقد صار في نظر الشعب "المنقذ المخلص" وهذا "التبجيل" المعنوي قد يمكنه من تثبيت انصاره والمحسوبين عليه في مواقع مؤثرة، مكافأة لهم على وقوفه إلى جانبه والدفاع عنه باستماتة حينما اصبح عرضة، في المدد الأخيرة، لسهام النقد،غير قادر على التصدي لخصوم شرسين. هذا الاتفاق المحتمل لفترة محددة، قد يفيد المؤسسة العسكرية في ترتيب أمورها الداخلية، استعدادا للتعامل مع رئيس مفاجئ غير بوتفليقة. إنها لن تقبل بسهولة إسناد منصب وزارة الدفاع إلى رئيس مدني مثلما هو الوضع الآن مع بوتفليقة. هذا الأخير تحسبه قريبا منها لأسباب تاريخية على اعتبار أنه حمل في وقت حرب التحرير لقبا عسكريا "كومندان" في جيش التحرير. التقاء مصالح، يمكن أن يفرز صيغة سياسية علاجية محدودة الصلاحية للوضع الجزائري المتأزم على المدى القريب. صحيح أن الحقل السياسي الجزائري، يحفل بشخصيات مدنية وذات خلفية عسكرية، مؤهلة لقيادة البلاد في المراحل المقبلة، غير أن الاجماع الوطني لم يتبلور لحد الساعة حول مرشح بديل، وبالتالي فإن نجاح بوتفليقة في الجولة الأولى من الاقتراع الرئاسي شبه محسوم، بشفافية الصناديق أو بدونها. والواقع أن ما يتهدد استحقاقات شهر ابريل المقبل، ليس التنافس بين المرشحين وكثرتهم حد النكتة، وإنما شبح الغياب والمقاطعة، وقد انقسمت الساحة السياسية إلى قسمين. وسيكون ذلك الموقف السلبي من الناخبين، بمثابة وجع أضافي للرئيس بوتفليقة، قد يرغمه على عدم إكمال ولايته الرابعة. إن الرئيس الحالي للجزائر، يمكنه إذا شاء أن يتوج مساره السياسي بإنجازات تاريخية يضيفها إلى سجله الحافل، فيما تبقى له من العمر السياسي. في طليعة المهام أن يهيئ البلاد لتتسلمها قيادات شابة قادرة على وضعها على سكة الحداثة والديموقراطية، عازمة على القطع مع الممارسات السياسية العتيقة، جاهزة للانكباب على مشاكل الداخل لإسعاد المواطنين بدل البحث عن زعامة في الخارج وبأي ثمن. أول خطوة في هذا الاتجاه القويم ، أن تعيد الجزائر موقعة نفسها من جديد في محيطها الإقليمي، بأن تتخلى عن الأوهام التوسعية، وأحلام الهيمنة التي أسكرتها في عصر الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي. انتهى ذلك الزمن ولن يعود، وتشكلت على خريطة العالم قوى ناهضة وتحالفات بديلة ومصالح، وبرزت زعامات من طراز جديد؛ وبالتالي فإن الاضطلاع بدور اقليمي محوري، لا يمكن أن يتم إلا بتقاسم المهام والوظائف مع الشركاء الأقربين أي الجيران، عبر تصفية جريئة وشجاعة للقضايا الخلافية العالقة معهم. ستكتشف القوى الفاعلة في الجزائر، إذا كانت راغبة حقا في استقرار بلادها وازدهارها، أن المغرب، في خاتمة المطاف، هو الجهة المأمونة المؤهلة أكثر من غيره للتنسيق والتعاون مع الجزائر في إطار شراكة مستقبلية تتجاوز مخلفات وضغائن الماضي. هذا الأفق، يمكن أن يساهم بوتفليقة في بلورته، برمزيته التاريخية، إذا خلصت النيات، قبل انسحابه من الميدان.هو أعرف الجزائريين بالمغرب وما يضمره المغاربة. ملم بأسرار الماضي، بصراعاته ونزاعاته الثنائية التي لم يخرج منها البلدان ظافرين، بل ربما بقناعة مضمرة أنه لا يمكن لأحدهما أن يتقوى بمفرده وعلى حساب الآخر. قد يكون هذا التمني مثاليا، ولكن السياسية تتحكم فيها بين الفينة والأخرى، وحسب بعد نظر الفاعلين، عوامل الخير والهداية. إن أي تطبيع أخوي بين الجزائر والمغرب، ضلعي المغرب العربي، استنادا على قاعدة المنفعة المشتركة والمصالح المتبادلة، ضروري لتعزيز صرح الاتحاد المغاربي إذ سيشيع فيه روح الوئام والتفاؤل بالمستقبل خاصة وأن بعض أجزائه تواجه تحديات الانتقال الديموقراطي، للانخراط في العصر السياسي الحديث. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.