استخلص العالم درساً من دروس السياسة الدولية في الشرق الأوسط، أو فلنقل تم التأسيس لرابط موضوعي بين الظواهر الإقليمية ومثيلاتها الدولية، فعرفنا مثلاً أن الصراعات الإقليمية في المنطقة تؤثر في أمن الطاقة العالمي. أصبحت تلك بديهة تحليلية منذ عقود، فسرت بكفاية معقولة انخراط واشنطن، مباشرة وغير مباشرة، في صراعات الشرق الأوسط. الآن ومع ظهور الاكتشافات الكبرى من الطاقة فيها تغيرت صورة الموقف، فالندرة النسبية لموارد الطاقة لم تعد موجودة وضاغطة على صانع القرار الأميركي. حدث العكس، الوفرة النسبية المتولدة عن الاكتشافات الكبرى من الطاقة، تغير من صورة المنطقة في العيون الأميركية، بعد أن تحولها من منطقة فائقة الأهمية في أولويات الأمن القومي الأميركي إلى مجرد منطقة هامة من مناطق العالم. ويستتبع هذا التغير الإدراكي للمنطقة في أذهان النخبة الأميركية تحولاً في نمط إدارة واشنطن لصراعات المنطقة، فلم تعد أميركا مضطرة للانخراط العسكري فيها كما جرى في العقود السابقة بغرض تأمين تدفق النفط. ويعني ذلك موضوعياً أن نظاماً إقليمياً جديداً قيد التبلور في المنطقة راهناً، لتعبئة الفراغ المتولد عن التراجع الأميركي النسبي المرتقب من المنطقة، وأن هذا النظام الجديد يعرف صراعاً مستعراً على الموقع فيه بين قطبي الصراع الإقليمي السعودية وإيران. هنا يبدو العالم بصدد استخلاص درس جديد من دروس السياسة الدولية لم يعرفه من قبل، ومفاده أن الوفرة النسبية في موارد الطاقة عالمياً تفاقم الصراعات الإقليمية، وهو مثال جديد يقدمه الشرق الأوسط أيضاً. أوباما 2014 وإيران ستظل أميركا لاعباً في الشرق الأوسط لضمان مصالحها فيه، ولكن انخراطها لن يكون عسكرياً مفرطاً بالضرورة. وظهرت شواهد التراجع الأميركي عن الانخراط في شؤون المنطقة مع سحب القوات من العراق، ثم مفاوضاتها مع إيران على الملف النووي، ومن إحجامها عن التدخل عسكرياً في سوريا. والإحجام الأخير يعني أن واشنطن انسحبت من دورها كلاعب إقليمي في الشرق الأوسط مثلما كانت منذ تسعينيات القرن الماضي بوجودها العسكري في مياه الخليج، أو كما أصبحت منذ احتلال العراق العام 2003 ومن قبله أفغانستان العام 2001. ويثبت هذا الانسحاب الإقليمي لواشنطن موازين قوى جديدة، تبدو مواتية لإيران. كان سقوط نظامين معاديين لإيران في العراقوأفغانستان مواتياً بشدة لطهران، على الرغم من أن ذلك لم يظهر مباشرة كون القوات الأميركية حلت محل النظامين الساقطين عسكرياً. ومع انسحاب واشنطن الفعلي من العراق والوشيك من أفغانستان، يبدو الفراغ الإقليمي المتولد عن سقوطهما مدوياً وكأنه جرى بالأمس فقط. كما أن التفاوض الإيراني الأميركي حول الملف النووي يثبت الأخير نقطة خلاف أساسية، ولا يتعرض إلى نفوذ إيران الإقليمي المتولد عن تراجع واشنطن عسكرياً من المنطقة، الأمر الذي يعني اعترافاً أميركياً ضمنياً بنفوذ إيران في المنطقة، ما يحول التفاوض حول الملف النووي الإيراني إلى نقطة تفاهم وتعاون إقليمي بين واشنطن وطهران. ولأن واشنطن لم تعد مهتمة كثيراً بالمنطقة، أو على الأقل مثلما كان اهتمامها قبل الاكتشافات الكبرى من موارد الطاقة فيها، فلم تعد مهتمة كذلك بتصوير إيران «فزاعة» لحشد دول المنطقة ضدها أو لتبرير التواجد العسكري الأميركي بالمنطقة وبيع السلاح لدول الخليج العربية لمواجهة الخطر الإيراني. على العكس ستلعب إيران دوراً في الترتيبات الإقليمية القادمة في المنطقة، بحكم نفوذها الممتد من العراق وحتى جنوبلبنان، وهي وضعية تناسب المصالح الأميركية الجديدة في المنطقة أي نشوء نظام إقليمي جديد يخفف الأعباء الأمنية والعسكرية عن واشنطن. تعي هذه الحقائق النخبة الإيرانية المتحلقة حول روحاني، وبالتالي تتوسل الملف النووي والمفاوضات حوله لتطبيع العلاقات مع أميركا، لإنهاء الحصار الاقتصادي أولاً ولتعبئة أقصى ما يمكن من الفراغات الإقليمية التي ستتركها واشنطن خلفها في الشرق الأوسط. أوباما 2014 والسعودية تعيش إدارة أوباما أزمة صامتة مع السعودية منذ فترة ليست بالقصيرة (راجع مقالنا في السفير: أوباما والأزمة المكتومة مع السعودية 11/3/2013)، والأزمة ليست ذات أبعاد أيديولوجية وإنما جيو سياسية. تصدر السعودية عشرة ملايين برميل نفط يومياً، الأمر الذي جعلها فائقة الأهمية قبل الاكتشافات الأميركية الأخيرة. وتعززت الشراكة بين الرياضوواشنطن عبر عقود ومحطات تاريخية شتى، ولكنها لم تعد كذلك، خصوصاً بعد صعود النفوذ الإيراني وتراجع النفوذ السعودي والعربي في المنطقة. تعتمد السعودية على واشنطن في حماية أمنها القومي منذ عقود، ومع وضوح التوجه الأميركي الجديد نحو الشرق الأوسط تصبح الرياض في مرمى الخطر. انسحاب واشنطن من أدوارها الإقليمية في الشرق الأوسط (الدول العظمى يمكنها أن تصبح قوى إقليمية في مناطق بعينها إلى جوار دورها العالمي أما العكس فغير ممكن، أي أن تصبح دولة إقليمية لاعباً كونياً في الوقت ذاته)، يعني نظاماً إقليمياً جديداً لا تحتفظ فيه دول الخليج العربية بتوازن القوى الراهن. ودخول واشنطن في مفاوضات مع إيران يثبت نفوذ الأخيرة في العراقوسورياولبنان، ويضر بنفوذ السعودية فيها. وبقاء النظام السوري على حاله وبتوازنات القوى الراهنة مع مفاوضات «جنيف 2» لن تنتج الحل الذي ترغب السعودية في رؤيته يتحقق في سوريا. كل هذه العوامل تدفع بالسعودية إلى «ممانعة» واشنطن والاعتراض على سياساتها في مناسبات تزايدت بالشهور الأخيرة، وهذه العوامل ذاتها تحفز الرياض أيضاً إلى التخلي عن التحفظ المعتاد في سياساتها الإقليمية والانخراط أكثر في ساحات المشرق، في محاولة لموازنة النفوذ الإيراني والدخول في الترتيبات الإقليمية القادمة بخسائر أقل. يزيد من استحكام المأزق السعودي أنه لا بديل دولياً ممكناً عن واشنطن، وأن موازين القوى الراهنة في المشرق العربي لا يمكن تعديلها بسهولة، فهي حاصل تراكم عشر سنوات ممتدة من العام 2003 وحتى الآن، ولم تظهر مفاعيلها بوضوح إلا مع انسحاب واشنطن من العراق ومن دورها الإقليمي في الشرق الأوسط. ستستمر الرياض في التعاون مع أوباما اقتصادياً ومالياً وسياسياً، وفي الوقت نفسه ستعمل على تحريك اللوبي النفطي المتحالف معها للتنسيق مع خصوم إدارة أوباما في الكونغرس لعرقلة انفتاحه على إيران. جوهر المشكلة السعودية مع واشنطن ليس أيديولوجياً أو حتى سياسياً مع إدارة أوباما، وإنما هو جيو سياسي لأن نظرة واشنطنالجديدة للمنطقة، بعد الاكتشافات الكبرى من الطاقة فيها، لم تعد تتقاطع مع مصالح الرياض على مساحة كبيرة من الشرق الأوسط مثلما كانت في العقود الممتدة من تأسيس المملكة. الخلاصة أدت الاكتشافات الأميركية الكبيرة من موارد الطاقة إلى تراجع نسبي في أهمية الشرق الأوسط بالمخيلة الاستراتيجية الأميركية، وإلى انسحاب إقليمي معلن من المنطقة. وإذ يفضي هذا الانسحاب حكماً إلى ترتيبات إقليمية جديدة لتعبئة الفراغ، يستعر الصراع الإقليمي بين الرياض وطهران في ساحات المشرق العربي في صورة انقسام سني شيعي. سينعكس كل ذلك على سياسة أوباما في العام الجاري، فالمفاوضات ستستمر مع إيران حول ملفها النووي مثلما سيستمر التوتر مع السعودية، ولكن من دون نجاح حاسم مع إيران أو تدهور نهائي مع السعودية. لم يعد عامل الوقت أو النفط ضاغطين بشدة على واشنطن، وبالتالي لا يمكن قياس تأثيرات الاكتشافات الضخمة من الطاقة في أميركا على الشرق الأوسط في عام واحد فقط، ولكنها ستحتاج إلى فترة أطول زمنياً لتصبح أكثر وضوحاً. تأسيساً على ذلك، لا تعدو الأزمات الخاصة بتشكيل الحكومة اللبنانيةالجديدة، أو «مؤتمر جنيف 2» السوري أو معارك الأنبار في العراق وما يرتبط بكل هذه الساحات من تفاصيل وحصص طائفية، إلا أن تكون تفاصيل هامشية وسخيفة في الصورة الأكبر لتفسير ما يجري. باختصار، لم يعد الشرق الأوسط كما كان في ترتيب الأولويات الأميركية، وهو ما يترك منذ الآن مفاعيله على المنطقة وعلى تفاصيل الحراكات في ساحاتها الصراعية. "السفير" اللبنانية