قرأت كلاما منشورا لواحد من الشبان الذين يقال عنهم إنهم مهّدوا لثورة 25 يناير 2011، ثم قادوها، يقول فيه ما معناه، إنه يعترض تماما على قانون التظاهر الذي صدر في القاهرة مؤخرا، ويدعو الحكومة إلى سحبه فورا! وقلت في نفسي: إذا كان هذا هو مفهوم هذا الشاب عن التظاهر كحق للمواطن، فلا بد أننا الآن، فقط، نعرف لماذا فشلت تلك الثورة في تحقيق أهدافها الثلاثة المعلنة، منذ ما يقرب من ثلاث سنوات! والغريب أن هذا الشاب الذي يريد من واقع كلامه أن يظل متظاهرا مدى حياته، قال إن حسني مبارك نفسه لم يكن يمنعه مع زملائه من التظاهر في أي مكان، وأن الحكومة الحالية، التي جاءت بعد ثورتين تمنعه مع رفاقه. ولا بد أن أي عاقل يقرأ كلامه هذا، سوف يلاحظ أنه ينطوي على مغالطة واضحة مرتين: مرة لأن «مبارك» إذا كان قد سمح له، ولزملائه بذلك فعلا، فإن هذا ليس معناه أن ما أقر به «مبارك» معهم صحيح على طول الخط، وبالتالي، فلا يجوز القياس على وضع خاطئ.. ومرة أخرى لأن الحكومة الحالية لا تمنع التظاهر، كما يروج كثيرون، وإنما هي تنظمه، بدليل أنها أعطت موافقة على مظاهرة خرجت في وسط البلد تنديدا بقانون التظاهر ذاته! وإذا كان لا بد من إنعاش ذاكرة الذين ينسون، في هذا السياق، فإننا فقط نشير إلى أن عددا من المواطنين الأميركان خرجوا للتظاهر في أسبوع عيد الأضحى الماضي، اعتراضا على أشياء في قانون الهجرة، فلما تجاوزوا ما هو مسموح لهم في التصريح الذي حصلوا عليه مسبقا، جرى القبض على تسعة منهم، على الفور، وكان من بين التسعة أساتذة في الجامعة! ولم يخرج أحد وقتها ليقول إن الإدارة الأميركية تحظر التظاهر، ولا استعدى أحد عليها منظمات حقوق الإنسان، ولا شيء من هذا أبدا، ربما لسبب بسيط جدا، هو أن الحكومة الأميركية كانت حين قبضت عليهم تطبّق قانونا يخصها على أرضها، وربما أيضا لأن هذا ما يجب أن تفعله أي دولة مطلوب منها بطبيعتها أن توازن بين مقتضيات أمنها، كدولة، وحق أي مواطن في أن يمارس حريته. وقد جاء وقت علينا كمصريين فيما بعد 25 يناير تحول فيه التظاهر من وسيلة إلى هدف في حد ذاته، لدرجة أنك تكاد تتصور أن هناك مَن يستيقظ من نومه في كل صباح، ليسأل نفسه، أول ما يسأل، عن المكان الذي سيذهب ليتظاهر فيه اليوم، على طريقة: أين تذهب هذا المساء؟! دون أن يتوقف، ولو للحظة، عند القضية التي سوف يتظاهر من أجلها، وعما إذا كان قد جرى قتلها تظاهرا على مدى سنين بما يقتضي بالضرورة أن يراجع المرء أمره، وهو يخرج في مظاهرة من هذا النوع أو يدعو إليها. لا أقول بالطبع بمنع التظاهر، ولا أدعو إلى منعه، ولكن أدعو إلى ترشيده، وإلى النظر إليه، دوما، على أنه في الأصل أداة يستخدمها المواطنون الذين يحسون بأن صوتهم لم يصل بالشكل الكافي إلى الحكومة في شأن يخصهم. ولأن مفهوم الغاية، لا الوسيلة، هو الذي ساد وشاع عن التظاهر منذ الثورة الأولى، ولأن ذلك قد زاد عن حده، ولأن كثيرين بيننا قد انهمكوا فيه إلى حد عجيب وخطير، فإن مجتمعا بكامله لم يعطه أحد الفرصة لكي يلتقط أنفاسه، فضلا عن أن يتفرغ لتحقيق الأهداف الثلاثة إياها، أو واحد منها على الأقل. فإذا جاءت الحكومة.. أي حكومة.. لتقول إن التظاهر حق مشروع، ولكنه، مثل أي حق آخر، في حاجة إلى ضوابط في الممارسة، جرى الاعتراض من أجل الاعتراض لا أكثر، وإلا، فقد كان المتخيل أن ينادي هؤلاء المعترضون بتعديل القانون - مثلا - أو بأن تكون وزارة الداخلية أكثر مرونة، وتفهما، وتعقلا، وهي تطبقه، أو أن يكون الذين يدعون إلى الخروج كل يوم أكثر استيعابا لظروف البلد، أو.. أو.. إلى آخر مثل هذه الأفكار التي لا يختلف عليها في الغالب اثنان. شيء من هذا لم يحدث، وكان الرفض للقانون هو رد الفعل الأول، دون أن يكون النقاش العاقل حوله، بدلا من ذلك، هو الشيء الحاضر والطبيعي والمنطقي. والحقيقة أن هذا كله كان، ولا يزال، حصيلة محزنة لما اصطلح بعضنا على تسميته ب«الربيع العربي».. إذ منذ أن انطلق هذا «الربيع» من تونس، في أوائل عام 2011، وهناك خلط عن قصد بين أن تكون حرا في ممارسة كل حقوقك، التي لا نجادل فيها، ولا يتعين أن ينازعك فيها أحد، وأن تكون فوضويا تمارس ما تحب أن تمارسه، متحللا من أي قيد، ودون إحساس بمسؤولية، هي بطبيعتها الوجه الآخر اللصيق بالحرية كحق لكل مواطن. حدث هذا، ويحدث، وأصبحت الدول التي أصابها «الربيع» في مأزق، فهي تريد أن تحافظ على الحد الأدنى من كيانها كدولة، ولا تمانع في الوقت ذاته في أن يمارس مواطنوها حقوقهم كاملة، بشرط أن يكون هناك وعي حقيقي يتحلى به المواطن، وهو يطلب حقه، ثم وهو يمارسه. ولم يكن هناك ما هو أصدق على الخلط الذي وقع بين الحرية، كقيمة غالية طول الوقت، والفوضى، كنقيض لهذه القيمة، إلا أن مواطنا خرج وحده.. نعم وحده.. في مظاهرة ذات يوم، في ميدان التحرير، ورفع من فوق رصيف جلس عليه لافتة كتب عليها: يسقط الرئيس القادم! "الشرق الأوسط"