لا أميل إلى العنف، وأختلف بشدة مع القائمين به، والداعين إليه. ولكن العنف عندما يفرض نفسه على مجتمعاتنا العربية، ذات الثقل، فلا بد من الاعتراف به. لقد أدركت الوظيفة التاريخية لما يحدث في البلدان التي أصطلح على تسميتها بدول الربيع العربي. فالوظيفة التاريخية لكل ما يحدث هناك هي صراع الدولة المدنية والدولة الدينية. ففي مصر، أكثر دولنا عمقاً وتقدماً، تكشفت الأوضاع عن صراع بين «الإخوان» والجيش، وثمة قتلى يوم إجلاء «الإخوان» عن ميدان عدوية والنهضة يبلغ عددهم ستمئة وسبعة وثلاثين قتيلاً، وفي تونس، أكثر دولنا تقدماً اجتماعياً، ما زال الصراع قائماً بين «المعارضة» وحزب «النهضة» الديني الحاكم. وفي ليبيا، يبدو الصراع واضحاً بين الاتجاهين. وفي سورية، وفيما نتابع كل يوم، يبدو الصراع أوضح من أن نشرحه أو نوضحه. وفي اليمن، يتخذ الصراع أشكالاً مختلفة، لكنه لا يخرج عن كونه صراعاً بين الاتجاهين. هذه دول «الربيع العربي». وفي غير دول ذلك الربيع هناك صراع لا ينكر بين الاتجاهين. إذن ثمة تجاذب بين اتجاه دولة مدنية واتجاه دولة دينية يؤمن بها أصحابها أيماناً عميقاً. هذان الاتجاهان ظلا مكتومين، وكان الوجود الأوروبي في البلاد العربية وسياسته يرجحان كفة الاتجاه الأول. لا بد من المرور بما مر به الآخرون. في تاريخ الإنسانية ثمة الوجود الديني. ثم جاء تاريخياً – الوجود المدني. طبيعي أن يتصارع الوجودان. وهذا التصارع يتخذ في كل مجتمع الشكل التاريخي الذي نشأ معه. إن الإشكال الأكبر هو أن نصف المجتمع تربى على طريقة معينة بينما تربى النصف الآخر من المجتمع على طريقة مناقضة له. ولا يمكن أن «يتعايش» الفريقان. هذا هو جوهر الإشكال. لا يمكن اختراقه أو تجاوزه. لا بد من صراع حتى يحسم طرف ما طريقته وما يريده ... في 9/9/2010 كتبت بالحرف الواحد: «لا يسير قطار التاريخ بالسلاسة والنعومة التي يريدها المثاليون والإنسانيون والطوباويون ... ابتداءً من أفلاطون! في تاريخ كل أمة ثمة عنف ما، بما في ذلك تاريخ العرب والمسلمين». يمكن، لحسن الحظ، الاستفادة الكاملة من دروس التاريخ العاقلة ... أما «غير العاقلة» والتي مردها إلى الغرائز العمياء، وكذلك المصالح المتناقضة فليعالجها من يقدر على معالجتها، والتراث الإنساني في التحضير وعلم النفس وعلم السياسة ... الخ، حافل بمثل هذه المحاولات النبيلة... إن (أجدت) وهي إن ارتبطت (بالإنصاف والعدل، والعدل أساس الملك) مجدية بلا منازع، والمقاربات السائدة اليوم، كما بين دول أوروبا (المتحدة) أصبحت أقرب اليوم إلى المقاربات العقلانية. ولكن قبل الحربين العالميتين في نهاية القرن التاسع عشر، ساد في أوروبا شعور وانطباع «متفائل» واهم بأن الإنسانية (الأوروبية بالطبع) قد بلغت سن الرشد العقلي المتجاوز للضعف، ثم جاءت الحربان العالميتان، ويكشف الإنسان الأوروبي العقلاني «المتقدم» عن وحش كاسر وأخذ يدمر ما بناه هو وأسلافه في أوروبا والعالم من مدن ومكتبات وجسور. وأصبحت الصورة السائدة في أوروبا، وفي آسيا كذلك، صورة الخنادق المتقاتلة وجنودها الجوعى المدفوع بهم إلى ساحات القتال. وأسهم الطيران «الحديث» في تدمير المدن الآهلة بالسكان على رؤوس المدنيين، سواء في لندن في بدايات الحرب الثانية أو في دريسدن الألمانية في نهايتها. تلك هي الصورة الحقيقية للبشرية، فهل يمكن تجنب العنف في التاريخ. والجاري في العالم العربي، يسمونه في كتب التاريخ «الحرب الأهلية» بين العلمانية والدينية!. "الحياة" اللندنية