رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي تحاصره كثير من الملفات الصعبة والشائكة في الداخل والخارج، قرر التحرك هذه المرة على الجبهة الكردية، وعلى طريقة أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم. هو قصد مدينة ديار بكر الواقعة في جنوب شرق تركيا والمعروفة بغالبيتها الكردية بذريعة تدشين العشرات من المشاريع التجارية والإنمائية، وعقد نكاح جماعي لأكثر من 300 شاب وشابة، لكنه حول الزيارة إلى مهرجان وعرس سياسي وخطوة مهمة على طريق المصالحة الحقيقية بين أنقرة وديار بكر أولا ثم بين أنقرة وأربيل ثانيا. «الأسطى» أردوغان وكعادته في مواقف من هذا النوع فاجأنا أولا بدعوة مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق للمشاركة في الاحتفالات في مدينة لم يزرها الأخير منذ أكثر من 21 عاما، ثم فاجأنا ثانيا باختيار تاريخ السادس عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) موعدا للزيارة، الذي يلتقي مع الذكرى الثالثة عشرة لوفاة المطرب الكردي المعروف أحمد قايا في الغربة، بعد هجرة قسرية سببها فقط إعلانه رغبته في الغناء بلغته الأم، فبدا المشهد وكأن الحكومة راغبة في إسدال الستار على أحداث ووقائع موجعة وفتح صفحة جديدة يتقدمها الاعتذار والمصالحة. ديار بكر مدينة عانت لعقود من السجون المكتظة وأقبية التعذيب وعشرات الجرائم التي قيدت ضد مجهول وحفر الأسيد وتكميم الأفواه، لكنها هذه المرة لبست ثوب السلام ولغة الحوار والمحبة وخرجت لاستقبال زوارها. تاريخية الحدث هي ربما في: * اعتراف رجب طيب أردوغان رسميا ب«إقليم كردستان العراقي» وبزعيمه مسعود البرزاني. ربما نتائج الانتخابات الأخيرة في الإقليم وحجم التبادل التجاري، الذي يقارب الثمانية مليارات دولار والتطورات الإقليمية المتلاحقة، التي تنعكس سلبا على مسار السياسة الخارجية التركية في المنطقة هي التي دفعت رئيس الوزراء التركي للإقدام على خطوة من هذا النوع. * قبول الأتراك لمسعود البرزاني، الذي كان حتى الأمس القريب شخصية غير مرغوب بها تركيا، أخا وشقيقا يعيش في الجانب الآخر من الحدود، وزعيما وشريكا في صناعة مستقبل المثلث التركي العراقي السوري. لا بل هو اصطحب معه المطرب الكردي الشعبي شيوان برفر الذي غادر تركيا قبل نحو 40 عاما، وعاد هذه المرة يغني بالكردية أمام قيادات العدالة والتنمية ومناصريه في ديار بكر على مرأى ومسمع حزب السلام والديمقراطية الذي جلس يراقب عن بعد بحيرة وذهول. * مسارعة العشرات من قيادات حزب «السلام والديمقراطية» الكردي لاستقبال رجب طيب أردوغان على مدرج الطائرة، التي حطت به في مطار ديار بكر على غير عادتهم، عندما اكتشفوا أنه ينوي زيارة رئيس بلدية المدينة المحسوب عليهم عثمان بايدمير، الذي قاطعته العدالة والتنمية لسنوات طويلة، فقرر أردوغان تعويض ما مضى بالتفاتة من هذا النوع رغم عتاب بايدمير: «جئت وأنا أستعد للمغادرة». * تحرك حكومة العدالة والتنمية التي ماطلت وترددت في موضوع إطلاق عجلة مسار الملف الكردي، لإعطاء قرارها النهائي في تحريك مسيرة اللاعودة عن بدء الحوار الحقيقي مع أكرادها والإصغاء لهم هذه المرة. فحكومة أردوغان لم يعد بمقدورها بعد هذه الساعة لعب ورقة أكراد شمال العراق ودعوة البرزاني إلى قلعة الأكراد في جنوب شرق تركيا، متجاهلة أكرادها ومطالبهم وانتظارهم تنفيذ الوعود المعلنة قبل أشهر، ووفر لها عبد الله أوجلان الغطاء الأمني والسياسي حين دعا أنصاره لإعطاء الحوار فرصة إنهاء صراع تاريخي طويل ومكلف في تركيا. * مفاجأة أردوغان لعشرات الآلاف من المستقبلين بحديثه عن «المستقبل الذي ينتظرنا مع عودة الموجودين في الجبال وإفراغ السجون» وهي رسالة وصفت بأنها مقدمة لمناقشة موضوع العفو العام في البلاد، الذي قد يشمل أوجلان أيضا، وهو مطلب رئيس لقيادات السلام والديمقراطية. فهل يكون لهم ما يريدون قبل موعد الانتخابات البلدية في مارس (آذار) المقبل، خصوصا أن أحد أقرب أعوان أردوغان الوزير بشير أتالاي الذي يقود ملف المسار الكردي، يدعو لنهاية الإرهاب وتسليم السلاح، ونحن بالمقابل سنقوم بما ينبغي علينا القيام به؟ أصوات في صفوف الأكراد تصر على أن ما جرى في نهاية الأسبوع المنصرم في جنوب شرق تركيا مناورة سياسية - انتخابية لأردوغان وحزبه ليس أكثر، أراد الأخير أن يلعبها مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية، في محاولة لتعزيز مواقعه ونفوذه في القلاع والحصون الكردية، وأن البرزاني نفسه ساهم في إيصال أردوغان إلى هدفه، متجاهلين أن ارتدادات خطوة من هذا النوع ستعني الانتحار السياسي بالنسبة لأردوغان في أحسن الأحوال. غضبة السلام والديمقراطية عكستها مقاطعة احتفالات استقبال البرزاني وبرفر خلال دخوله الأراضي التركية، غامزين من موقع أنه لو كان ضيفهم هم لتحرك مئات الآلاف لاستقباله بدل أن يستقبله رئيس نقطة التفتيش الجمركي في حدود الخابور. زيارة الزعيم الكردي الأخيرة إلى ديار بكر ستشجعه حتما على المضي وراء الحلم الكبير في رؤية كردستان الكبرى، بعدما تحقق حلمه في إنجاز مشروع كردستان الصغرى في شمال العراق. لكننا لم نعرف بعد إذا ما كان اندفاع صالح مسلم للإعلان عن الإدارة الذاتية المستقلة في شمال شرقي سوريا، رسالة تشجيعية للبرزاني عشية ذهابه إلى ديار بكر، أم أنها تحد وخطوة باتجاه إضعاف موقفه وعرقلة نجاحها، وهي نقلة قد تكون تمت بالتنسيق مع أطراف محلية وإقليمية أزعجها ما يجري، فتحركت للرد عبر تنفيذ هجومين مفاجئين ضد قوات عسكرية تركية في ماردين وديار بكر، رغم إعلان وقف النار من جانب واحد من قبل حزب العمال الكردستاني. "الشرق الأوسط"