وأنا أطوف بأروقة المعرض الدولي للكتاب، لمحت كتب العالم الجليل محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله المنشورة بدار الفكر، فتوجهت إليها لتتسمّر قدماي في مكان تلك الرفوف، حيث رصت كتبه التي قرأتها تباعا في سن مبكرة جدا، وأغلبها موقعة بإهداء العالم الكبير الذي عرفته عن قرب، ولم يتسن لي التعبير عن مشاعر محفورة في أعماقي وما تعكسه من المعاني الكبيرة التي سكنت هذه الشخصية العلمية الفذة، بسبب الصدمة والحزن الذي أصابني على إثر تلك الفاجعة المرتبطة باغتيال علامة الشام ومرجعيتها الدينية البارزة. فأجلت التعبير كتابة عما علمته وعرفته عن هذه القامة العلمية إلى حين الذكرى الأولى لوفاته في شهر مارس القادم، ومع ذلك الشعور الذي انتابني عند رؤية كتبه. خطر ببالي فجأة سؤال غريب: لماذا لم تعد تحرق الكتب؟ ولماذا في حالة هذا العالم الكبير كانت التصفية الجسدية بديلا عن حرق الكتب، وخيارا لدى مرتكب هذه الجريمة البشعة النكراء؟ ثم قلت في نفسي: لقد استشهد الشيخ البوطي في مشهد ومنظر، وكأنه لوحة فنية خالدة رسمتها يد القدر، حيث يلقي العالم الرباني درسه في بيت الله يحيط به تلامذته ومريدوه، فيسلم روحه الطاهرة لله وكتاب الله بين يديه، ومعه طلابه المشرئبة أعناقهم إليه تطلعا وشغفا، والمتعلقة قلوبهم به حبا واحتراما، والمتواصلة عقولهم بأفكاره بكل حرية وبعيدا عن كل سمع وطاعة. ثم واسيت نفسي مرة أخرى عندما أكدت لها وأنا في عمق المشهد في دار الفكر بعد مسجد الإيمان، أنه وعلى الرّغم مما اقترفته تلك اليد الآثمة ظلما وعدوانا عندما امتدت إلى عالمنا الكبير، هأنذا على أرض المعرض شاهدة مثل غيري على استمرارية فكره عبر كتبه التي فاق عددها الستين، من "كبرى اليقينيات الكونية" إلى "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي" إلى "شرح وتحليل الحكم العطائية" و "الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه".. وغيرها. إلى غاية تلك الرواية الجميلة التي تروي قصة حب كردية نقلها الشيخ إلى العربية وأقام بنيانها القصصي تحت عنوان "مموزين قصة حب نبتت في الأرض وأينعت في السماء"، وها هم زوار المعرض يتوافدون بكثرة مقبلين على كتبه ينتقونها، وها هي أفكاره حية بيننا تتناقلها الأجيال. إن تاريخ العلوم يعرض علينا نماذج مختلفة من اغتيال العقل والأفكار ومن الجنوح عن الحوار والبحث والمناظرة، إلى محاولة إلغاء الفكرة والقضاء عليها من خلال حرق الكتب أو تصفية صاحبها لقطع حبل الاستمرارية والتأثير ولكن هيهات.. فها هو فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها أبو الوليد ابن رشد، أحد أكبر ضحايا حرق الكتب عندما اتهمه الخليفة المنصور بالكفر والضلال والمروق والزيغ، فأمر بحرق جميع كتبه ومؤلفاته الفلسفية، وحظر الاشتغال بالفلسفة وباقي العلوم ماعدا الطب والفلك والرياضيات، ثم أبعده إلى اليسانته البلدة الصغيرة التي تقع بجانب قرطبة. لقد كان ابن رشد يواجه تلك المعرفة الجاهلة أو الجهل المركب، أو بلغة العصر كان يواجه الإيديولوجيا التي تقدم نفسها على أنها العلم أو الدين، فهل عملية حرق الكتب هي مؤشر على أن جديدا ينبثق في عالم الأفكار والاجتهاد والاستكشاف؟ وهل هي دليل على بزوغ إشراقات جديدة في العلم والمعرفة بما ينتهي إلى عصر تدشين جديد، حيث يجري تأسيس مناهج وأدوات ونظريات جديدة تؤدي إلى ثورة علمية وبراديغمات وأنظمة معرفية جديدة تنقل أحوالنا الفكرية البائسة إلى آفاق مستجدة من العلم والفلسفة؟ وإذا كان الأمر كذلك هل يدل اختفاء هذه الظاهرة، أو ما يماثلها على أننا مستغرقون في حالة يرثى لها من العجز والعطالة الفكريين؟ لقد مرّ عالم الفلك كوبرنيكوس وعالم الرياضيات والفيلسوف غاليلي بنفس النكبة عندما أحرقت كتبه التي اعتبرتها الكنيسة هرطقة، وحكمت عليه بالإقامة الجبرية بسبب إقراره صحة نظرية كوبرنيكوس القائلة بدوران الأرض حول الشمس. وتشرد ديكارت في هولندا وألمانيا والسويد هروبا بأفكاره وكتبه، إلى أن انبثق عن كل ذلك ثورة علمية ومعرفية كبرى أحدثت القطيعة مع المدرسيين والنظام المعرفي الأرسطو-طاليسي، وأسست لفلسفة الأنوار والأحزاب الفلسفية التي استبقت الأحزاب السياسية، وعندها تم بناء الحضارة الحديثة التي كان ابن رشد يعيش بعض إرهاصاتها عندما كان يؤلف كتابه عن "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال"، فضلا عما اختص به من ترجمة وشرح كل التراث الأرسطي. وبعد كل هؤلاء دشن كل من آينشتاين وبور وهايزنبرغ وغيرهم ثورة علمية جديدة تقوم على الارتياب واللايقين واللاخطية، ليتطور كل ذلك إلى ملامح تطور جديد عبر نظريات الفوضى والتعقيد، وغيرها من تطورات الثورات التقنية والبيولوجية والمعرفية ككل، ويجري ذلك في مواقع لم تعد تحدث فيها تصفيات جسدية واغتيالات بسبب الاختلاف العلمي أو الفكري، فقد تم هناك وضع حد بين المعرفة العلمية والمعرفة الجاهلة وبين العلم والايدولوجيا. ولكني أعود إلى تلك الخاطرة السؤال لأكرر: لماذا لم تعد تُحرق الكتب؟ هل يعود ذلك لحالة العطالة وغياب الجديد الصادم؟ لا أدري ولكن غياب الجدل والمناظرة والاختلاف في النظر والاجتهاد العلمي يدعو إلى مزيد من التأمل والبحث عن سبب غياب تهافت تهافت جديد!؟ "الخبر" الجزائرية