«إن نتائج زيارتنا فاقت توقعاتنا». هذا ما قاله الرئيس الإيراني حسن روحاني عقب اللقاء الذي تم بين وزير خارجيته محمد جواد نظيف ونظيره الأميركي جون كيري، ملمحاً إلى أن باب المصالحة والتطبيع سيُفتح بين «الشيطان الأكبر» وزعيمة دول «محور الشر». واستغل الكاتب والمعلق فريد زكريا هذه البادرة ليسوّق عناصرها المرتقبة، ويكتب في مجلة «تايم» مقالة تحليلية قارن فيها أهمية هذا الحدث بالزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس ريتشارد نيكسون لبيكين عام 1972. ثم ربط دوافع اللقاء مع الزعيم ماوتسي تونغ بالقول إن الدولتين كانتا تحاربان عدواً مشتركاً تمثل بالاتحاد السوفياتي. في حين أن الربط بين واشنطنوطهران مفقود منذ وصول الخميني إلى الحكم. ولكن زكريا في مقالته، برر لروحاني خطوة الانفتاح، كونه يطمح إلى إزالة الآثار السلبية التي أحدثتها العقوبات والمقاطعة على الاقتصاد الإيراني. ولفت الوزير كيري في لقاء مع قناة «سي بي أس»، إلى أن بلاده لن ترفع العقوبات قبل ظهور عملية شفافة ومسؤولة يمكن التأكد من صدقيتها بحيث نعرف تماماً أين تذهب طهران في برنامجها النووي! وحول هذا السؤال، علق روحاني بالقول إنه لا مكان للأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في عقيدة إيران الدفاعية. ويُستَدَل من حجم التراجع الذي أبداه مرشد النظام علي خامنئي، أن تحسين العلاقات مع واشنطن كان هدفاً أساسياً يرمي إلى إبعاد ظاهرة «الربيع العربي» عن المجتمع الإيراني. وفي تقدير المراقبين، أن خامنئي كان حريصاً على إنقاذ النظام من احتمال انفجار ثورة داخلية يمكن أن تهدد مؤسسات الدولة. لذلك قام بانعطافة كبرى أملاً في تحاشي المواجهة مع المواطنين الذين أرهقتهم المقاطعة وأفقرتهم العقوبات. والثابت أن إيران خضعت لنظام العقوبات منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، الأمر الذي وفر للمسؤولين خبرة التعاطي مع هذا الموضوع الشائك. خصوصاً أن هناك أكثر من 115 قرار مقاطعة اقتصادية، بينها قرارات شاملة صادرة عن مجلس الأمن الدولي. إضافة إلى هذا، فان الإدارات الأميركية تدخلت دائماً لزيادة ضغوطها على الدول التي تتعامل مع طهران في مجالات النفط والتجارة. ولكن التجارب أثبتت أنه من الصعب مراقبة عمليات تنفيذ المقاطعة، لأن إيران تستورد أكثر من ستة آلاف نوع من البضائع والخدمات من أكثر من 160 دولة. في حين تصدر منتجاتها إلى أكثر من 150 دولة. عام 1995 أصدرت الولاياتالمتحدة قانوناً طريفاً أسمته «قانون داماتو» يحظر على الشركات الأجنبية العمل في مجال النفط والغاز في إيران بعقود تزيد على عشرين مليون دولار. وعلى رغم المقاطعة التي فرضتها واشنطن، فان طهران نجحت في استقطاب المزيد من الاستثمارات في مجال النفط والغاز. والسبب أن دول أميركا اللاتينية زادت حجم استيرادها من إيران بنسبة أربعة أضعاف، لتصل إلى عشرة بلايين دولار. وفي هذا السياق، قامت الصين بخطوة تحد حيال المقاطعة، وذلك بتوقيع اتفاق بمبلغ مئة بليون دولار تتعهد بموجبه إيران بتأمين النفط على امتداد 25 سنة. كذلك اشترت البرازيل عام 2008 نفطاً من إيران بمبلغ بليوني دولار. ولقد أحدثت هذه المخالفات ردود فعل سلبية لدى شركات الطاقة الأميركية التي احتجت على قرار الإدارة التي حرمتها من حق المنافسة المشروعة. تقول مصادر الأممالمتحدة إن سياسة احتواء إيران فقدت تأثيرها وصدقيتها لأن واشنطن لم تحافظ على تطبيقها بصورة منتظمة. ففي عهد الرئيس ريغان عقدت إدارته صفقة تسلح مع إيران لم تلبث الصحف الأميركية أن أزالت الغموض عن سريتها. وفي عهد جورج بوش الأب أجرت واشنطن محاولة تقارب ديبلوماسي مع إيران أدت إلى إطلاق سراح محتجزين أميركيين في لبنان عام 1991. وفي عهد الرئيس كلينتون، غضت الولاياتالمتحدة النظر عن شحنات أسلحة أرسلتها إيران إلى البوسنة. واللافت في هذا الأمر أن الولاياتالمتحدة لم تتوقف يوماً عن تحريض حلفائها على مقاطعة إيران، بينما بقيت هي الدولة الرابعة على قائمة الدول المتعاملة سراً مع طهران! اعترف الرئيس السابق، محمود أحمدي نجاد، بأن العقوبات ضد بلاده خلقت عقلية جماعية قادرة على الخروج من حالات الحصار. كذلك اعتمد أنصار النظام على مصادرهم الوطنية، وعلى تطبيق سياسة الاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس. وقد اضطرت الدولة إلى البحث عن بدائل في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وللتعويض عن المشتريات الخارجية، قام الحرفيون بتطوير صناعات محلية تميزت بالجودة والقدرة على المنافسة. وحول هذا التطور، أعلن يومها مرشد النظام علي خامنئي أن المقاطعة الأميركية كانت نعمة بالنسبة لشعب إيران، كونها خلقت حركة جديدة لتنمية القدرات الذاتية. وعليه، فهو يرى أن المقاطعة لعبت لصالح البلاد، وأن الدول الصديقة كانت محصورة بعشر دول عام 1980 ولكنها ازدادت بحيث أصبح نصف سكان العالم أصدقاء لإيران: الصين وروسيا والهند وإندونيسيا والبرازيل. هذا الوضع كان قائماً ومستمراً إلى حين شعر خامنئي بأن الرئيس أحمدي نجاد أصبح عبئاً عليه وعلى الجمهورية الإسلامية. خصوصاً بعد التصريح الاستفزازي الذي أدلى به رداً على اقتراح الدول الست الكبرى تجميد تخصيب اليورانيوم مقابل تجميد فرض عقوبات جديدة. وقال نجاد في هذا الشأن: إن ملف البرنامج النووي قد انتهى... وإن أي مفاوضات أخرى ستقتصر على المشاركة في إدارة العالم وإحلال السلام فيه. ورأى مرشد النظام في هذا التصريح الاستعلائي مخالفة فاضحة لسياسة الصبر والتأني التي اعتمدها أداة لتخفيف التوتر الدولي ضد إيران. لذلك قرر استبداله بنسخة رئاسية جديدة تعرف كيف تتعامل مع ظروف المنطقة بروية ومنطق. وعلى ضوء هذا التغيير بوشر التراجع عن إستراتيجية حافة الهاوية في الملف النووي. ومع ظهور هذه النقلة النوعية، أظهر استطلاع للرأي أعدته الحكومة الإيرانية، تأييد أكثرية ساحقة من الشعب إعادة العلاقات مع الولاياتالمتحدة. كما أظهر تأييد تسعين في المئة سياسة تطبيع العلاقات مع «الشيطان الأكبر»، فيما عارض عشرة في المئة، بعد الموافقة على إلغاء شعار «الموت لأميركا». وهو شعار رسمي مرفوع على جدران الساحات العامة في كل المدن الإيرانية. ومن جهة أخرى، وزع مركز الدراسات في جامعة تل أبيب بياناً يُظهر أن ثلث الإسرائيليين سيهاجرون في حال حازت إيران على قدرات نووية. وتبين من الاستطلاع أن الإسرائيليين لا يعلقون آمالاً كبيرة على الحوار الذي تجريه إدارة أوباما مع حكومة روحاني من أجل منع إيران من تطوير قدرات نووية عسكرية. وتوقع 53 في المئة من الإسرائيليين فشل هذا الحوار. كذلك تبين من الاستطلاع أن أكثر من نصف الجمهور الإسرائيلي يرى خطر انتظار النتائج الديبلوماسية، مشدداً على أهمية مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية قبل فوات الفرصة. محادثات جنيف الأولى أثبتت أن إيران على استعداد لتوسيع المحادثات بحيث تشمل القضايا التي رفضتها سابقاً. كما أثبتت أيضاً أن الوفدين الأميركي والبريطاني كانا يمثلان إسرائيل، بدليل أن نائبة وزير الخارجية الأميركية، ووندي شيرمان، اتصلت بتل أبيب قبل أن تتصل بواشنطن. وقد تحدثت إلى مستشار الأمن القومي يعقوب عميد رور مدة ساعة تقريباً عبر الهاتف شارحة له الأجواء السياسية التي هيمنت على قاعة المحادثات. في حين غادر الوفد البريطاني المشارك جنيف لينتقل مباشرة إلى تل أبيب قبل إطلاع الحكومة في لندن على تفاصيل الجلسات المغلقة. وتبين من المعلومات التي رشحت إلى الإعلاميين المقترحات التالية: أولاً - عرض الوفد الإيراني خطة يمكن تطبيقها على مرحلتين، تبدأ بخطوات بناء الثقة بين المتحاورين لمدة ستة أشهر، ومن ثم يُصار إلى فتح ملف الأزمة الذرية. في المرحلة الثانية يعلن الوفد الإيراني عن استعداده لوقف تخصيب اليورانيوم بدرجة عشرين في المئة، على أن تحوّل المادة المخصبة إلى وقود ذري لمفاعل البحث في طهران. كذلك عبّر الوفد الإيراني عن استعداده للتباحث في كمية تخصيب اليورانيوم بدرجة خمسة في المئة. إضافة إلى عدد آلات الطرد المركزي التي تستعمل في منشآت التخصيب. وهذا معناه أن المشروع النووي لن يقفل نهائياً، وإنما سيخضع لمعاينة مراقبي الوكالة، مع الموافقة على إجراء تفتيش فجائي في مختلف المنشآت المريبة. بعد حصول إسرائيل على وقائع الجلسات من الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين والألمان، قررت إرسال وفد إلى واشنطن برئاسة وزير شؤون الاستخبارات يوفال شتاينتس، وعضوية وزارة الخارجية وجهاز الأمن. ومن المتوقع أن يحمل الوفد إلى الإدارة الأميركية المقترحات التي عرضها بنيامين نتانياهو على الوزير جون كيري أثناء اجتماعهما في روما يوم الأربعاء الماضي. قال له إن إبرام صفقات جزئية غير شاملة، ستبقي «سيف ديموكليس» معلقاً فوق رأس إسرائيل، ورؤوس أعداء إيران في منطقة الشرق الأوسط. لذلك طالب بتدمير كل المنشآت المعدة لأغراض عسكرية. وظهر كيري بمظهر محامي الدفاع عن إسرائيل، مؤكداً لرئيس وزرائها أنه سيواصل الحوار إلى أن يقتنع بأن برنامج إيران النووي مقتصر على الأغراض السلمية. وفي تعليقه على تهديد نتانياهو، قال رئيس «المنظمة الإيرانية للطاقة الذرية»، على أكبر صالحي، إن بلاده تتخذ قراراتها وفقاً لمصالحها الوطنية غير آبهة للتهديد والوعيد. بانتظار اجتماع آخر، طمأن الوزير كيري الحكومة الإسرائيلية بأن قرار تخفيف العقوبات على إيران لن يصدر قبل إحراز تقدم ملموس في شأن المنشآت الذرية. وفي مطلق الأحوال ستكون عملية التخفيف محدودة بحيث تقتصر على إلغاء الحظر على النفط الأوروبي أو على النظام المصرفي الإيراني. ومثل هذه العملية قد تطول إلى ما بعد عام 2014، أو إلى ما بعد حسم الحروب الأهلية في سورية وتونس وليبيا ومصر واليمن. وفي تصور أوباما الذي يشجع حل القضايا العالقة بالطرق السلمية، مثلما فعل مع سورية... فإن شراء الوقت هو السلاح الأقوى بالنسبة لتسوية النزاع بين إيران وخصومها. وربما تستعين واشنطن بمخططات الحرب الباردة لتقويض نفوذ إيران مثلما فعلت لتقويض نفوذ الاتحاد السوفياتي. ذلك أن طهران، في نظرها، تمثل عاصمة مركزية لمختلف الاضطرابات وأحداث العنف في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا. صحيح أن مواقف الدول العربية المعنية ليست متجانسة في قلقها من تدخل إيران... ولكن الصحيح أيضاً أن «الربيع العربي» قد شرذم دول المنطقة بطريقة أصبحت الجمهورية الإسلامية تخشى من وصول حرائقه إلى طهران! *الحياة