بعد الشهرة التي حققها المسلسل التركي «حريم السلطان»، الذي جعل من علاقة سليمان القانوني وحريمه بؤرة تتقاطع مع مختلف عقد وأحداث المسلسل، سيتساءل عدد من المتتبعين للمشهد السينمائي في المغرب عن قصور كبير في استثمار تاريخ البلد فنيا، وتسويقه بشكل يعرف بحضارته، دون الحديث عن العوائد التي يمكن أن تتمخض عن ذلك، سواء تعلق الأمر بتنشيط سوق الفن أو بمزيد من الترويج لوجهة البلد على المستوى السياحي. ويحفل تاريخ المغرب بكثير من الحكايات والقصص المشابهة لعلاقة سليمان القانوني بحريمه. مثلا، هناك حكايتان شيقتان، كان لهما حضور لافت عند مؤرخي الفترة التي يحسب عليها أبطالها، تتعلق الأولى بعلاقة يوسف بن تاشفين، أمير المرابطين وباني مدينة مراكش، بزوجته زينب النفزاوية، فيما تتعلق الثانية بالمعتمد بن عباد، أحد أشهر ملوك الطوائف، وزوجته اعتماد الرميكية. وفي الوقت الذي تطرقت فيه أفلام ومسلسلات عربية، وإن بشكل محتشم، لعلاقة المعتمد بن عباد باعتماد الرميكية، فإنه لم يكتب لعلاقة يوسف بن تاشفين بزينب النفزاوية أن لم تتجسد على الشاشة، إلا مؤخرا، مع فيلم «زينب.. زهرة أغمات» لمخرجته المغربية فريدة بورقية. وبغض النظر عن قيمة هذا العمل والأسئلة التي يمكن أن تثار بخصوص حجم الدعم المخصص لإنجازه، فقد شكل تصوير هذا الفيلم مفاجأة جميلة للعارفين بتاريخ المغرب، بشكل عام، والأدوار المهمة والمؤثرة التي لعبها عدد من نسائه بشكل خاص. وقالت فريدة بورقية ل«الشرق الأوسط» إنها استمدت فكرة الفيلم من مشروع مسلسل تلفزيوني من 30 حلقة تقدمت به في وقت سابق للتلفزيون المغربي، كان من المنتظر أن يخصص لحياة المرأة التي ارتبط اسمها بازدهار وقوة المرابطين وفكرة بناء مدينة مراكش، غير أنه لم يكتب للمسلسل أن يرى الدعم والنور، لتقرر، على مضض، تنفيذ الفكرة في فيلم سينمائي، تقدمت به إلى لجنة الدعم بالمركز السينمائي المغربي، التي قامت بانتقائه ودعمه بمبلغ 380 مليون سنتيم (400 ألف دولار). وهو مبلغ، تستدرك بورقية: «لا يلبي طموح إنتاج فيلم تاريخي يتناول فترة تختصر جانبا من التألق الذي عرفه البلد». وشددت بورقية على أن اختيار إخراج فيلم تاريخي، بدا، في نهاية التصوير، أشبه ب«نضال فني»، خاصة أن الدعم لا يمكن أن يغطي، برأي العارفين بمتطلبات إنتاج من هذا النوع، حتى تكاليف الأزياء والإكسسوارات، فضلا عن أن هذه النوعية من الأفلام لا تغري المستشهرين والمحتضنين، رغم أن المنطق يؤكد أن إنتاج أفلام تستند إلى تاريخ البلد لتعرف بحضارته، يمكن أن يساهم، أيضا، في جلب السياح والترويج لوجهته، أفضل من عشرات التظاهرات الترويجية المكلفة، الشيء الذي يستدعي جهدا مشتركا ودعما إضافيا توفره قطاعات وصية ومعنية، من قبيل وزارة السياحة ووزارة الثقافة، وغيرها. وعن دوافع إخراج فيلم تاريخي، يتناول سيرة وحياة زينب النفزاوية، اعترفت بورقية بأنها لم تكن تعرف شيئا عن هذه الشخصية، التي أخذت إحدى المدارس الموجودة بقرب من مسكنها اسمها، مشيرة إلى أنها حين سألت عددا من تلاميذ المدرسة عمن تكون زينب النفزاوية قالوا: إنهم لا يعرفون من تكون. وتعتبر زينب بنت إسحاق النفزاوية أشهر شهيرات النساء في المغرب، وكتب عنها ابن خلدون: «كانت إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة». وكتب الشيخ أبو العباس أحمد بن خالد الناصري، في كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى»، عن علاقتها بزوجها يوسف بن تاشفين: «كانت عنوان سعده، والقائمة بملكه، والمدبرة لأمره، والفاتحة عليه بحسن سياستها لأكثر بلاد المغرب». وكتب عنها ابن الأثير، في كتاب «الكامل»: «كانت من أحسن النساء ولها الحكم في بلاد زوجها ابن تاشفين». ويقال: إن زينب النفزاوية كانت وراء تحفيز بناء مدينة مراكش، سواء عند وضع أساسها الأول في عام 461ه أو عند استكمالها بداية عام 463ه على يد زوجها يوسف بن تاشفين. ونقرأ، في كتاب «سبع سيدات مراكشيات باستحقاق» لمؤلفه محمد الصالح العمراني بن خلدون، أن الأميرة زينب النفزاوية هي «أم فكرة بناء مدينة مراكش حاضرة للمغرب المسلم الكبير من حدوده مع مصر نهر النيل إلى حدوده مع السنغال». ووصف المؤلف زينب النفزاوية بالزوجة «الوفية» و«الطموح»، والمستشارة «النصوح» و«الصدوق»، إلى أن يختم حديثه عنها، بقوله: «وتعزز مفعول ما تكون الأميرة زينب النفزاوية قد أوحت به إلى أمير المسلمين، زوجها، يوسف بن تاشفين، من أن تكون لدولة إمارة المسلمين المرابطية عاصمة حاضرة لهذه الدولة، دولة المغرب المسلم الكبير، واستجاب يوسف لزينبته، فبنى لها مدينة مراكش». وغالبا ما يثار اسم يوسف بن تاشفين، حين يتم الحديث عن زمن تأسيس المدينة الحمراء، وهو القائد المرابطي الذي كان له فضل وضع الأساس لأول بناء في هذا المكان الذي صارت تؤمه أفواج السياح من كل فج عميق، والذي تنقل كتب التاريخ أنه كان عبارة عن «موضع صحراء رحب الساحة، واسع الفناء.. خلاء لا أنيس به إلا الغزلان والنعام، ولا ينبت إلا السدر والحنظل». ونقرأ في «الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية»، لمحمد بن محمد بن عبد الله الموقت، قوله: «إن مؤسسها (مؤسس مراكش) رحمه الله تحرى بوساطة منجميه وضع أول حجر من تأسيس بنائها على برج العقرب الذي هو برج الغبطة والسرور، لتبقى دائما دار سرور وحبور. وذاك السر في كون السلو والنشاط يغلب على سكانها ويفيض من بين أركانها». وتقرأ في كتاب «الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية»، وهو لكاتب أندلسي غير معروف، تحت عنوان «سيرة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين»، أن الأمير المرابطي «كان رجلا فاضلا، خيرا، فطنا، حاذقا، زاهدا، يأكل من عمل يده، عزيز النفس، ينيب إلى الخير والصلاح، كثير الخوف من الله عز وجل، وكان أكبر عقابه الاعتقال الطويل، وكان يفضل الفقهاء، ويعظم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها برأيهم، ويقضي على نفسه بفتياهم». ونقرأ لابن أبي زرع في «روض القرطاس»: «وكان رحمه الله بطلا نجدا شجاعا حازما مهابا ضابطا لملكه، متفقدا الموالي من رعيته، حافظا لبلاده وثغوره، مواظبا على الجهاد، مؤيدا منصورا، جوادا كريما سخيا.. خطب به بالأندلس والمغرب على ألف منبر وتسعمائة منبر. وكان ملكه من مدينة أفراغة أول بلاد الإفرنج قاصية شرق بلاد الأندلس إلى آخر عمل شنترين والاشبونة على البحر المحيط من بلاد غرب الأندلس.. وملك بالمغرب من بلاد العدوة من جزائر بني مزغنة (الجزائر العاصمة) إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى، إلى جبل الذهب من بلاد السودان». وتبقى أهم محطة في الدور الذي لعبته زينب النفزاوية في تاريخ مراكش ودولة المرابطين، هي تلك التي وردت في كتاب «الاستقصا» للشيخ الناصري، حيث نقرأ: «كان الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني قد تزوج زينب بنت إسحاق النفزاوية وكانت بارعة الجمال والحسن... وكانت مع ذلك حازمة لبيبة ذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور حتى كان يقال لها الساحرة، فأقام الأمير أبو بكر عندها بأغمات نحو ثلاثة أشهر، ثم ورد عليه رسول من بلاد القبلة فأخبره باختلال أمر الصحراء ووقوع الخلاف بين أهلها، وكان الأمير أبو بكر رجلا متورعا فعظم عليه أن يقتل المسلمون بعضهم بعضا وهو قادر على كفهم ولم ير أنه في سعة من ذلك وهو متولي أمرهم ومسؤول عنهم، فعزم على الخروج إلى بلاد الصحراء ليصلح أمرها ويقيم رسم الجهاد بها، ولما عزم على السفر طلق امرأته زينب، وقال لها عند فراقه إياها: (يا زينب إني ذاهب إلى الصحراء وأنت امرأة جميلة لا طاقة لك على حرارتها وإني مطلقك، فإذا انقضت عدتك فانكحي ابن عمي يوسف ابن تاشفين فهو خليفتي على بلاد المغرب). فطلقها، ثم سافر عن أغمات وجعل طريقه على بلاد تادلا حتى أتى سجلماسة فدخلها وأقام بها أياما حتى أصلح أحوالها ثم سافر إلى الصحراء... وكان يوسف بن تاشفين قد استفحل أمره أيضا بالمغرب واستولى على أكثر بلاده فلما سمع الأمير أبو بكر بن عمر بما آل إليه أمر يوسف بن تاشفين وما منحه الله من النصر أقبل من الصحراء ليختبر أمره، ويقال: إنه كان مضمرا لعزله وتولية غيره، فأحس يوسف بذلك فشاور زوجته زينب بنت إسحاق... فقالت له: (إن ابن عمك متورع عن سفك الدماء فإذا لقيته فاترك ما كان يعهده منك من الأدب والتواضع معه وأظهر أثر الترفع والاستبداد حتى كأنك مساو له ثم لاطفه مع ذلك بالهدايا من الأموال والخلع وسائر طرف المغرب واستكثر من ذلك فإنه بأرض صحراء وكل ما جلب إليه من هنا فهو مستطرف لديه). فلما قرب أبو بكر بن عمر من أعمال المغرب خرج إليه يوسف بن تاشفين فلقيه على بعد وسلم وهو راكب سلاما مختصرا ولم ينزل له ولا تأدب معه الأدب المعتاد. فنظر أبو بكر إلى كثرة جيوشه، فقال له (يا يوسف ما تصنع بهذه الجيوش)، قال: (أستعين بها على من خالفني)، فارتاب أبو بكر به، ثم نظر إلى ألف بعير قد أقبلت موقرة، فقال: (ما هذه الإبل الموقرة؟)، قال: (أيها الأمير إني قد جئتك بكل ما معي من مال وأثاث وطعام وإدام لتستعين به على بلاد الصحراء)، فازداد أبو بكر تعرفا من حاله وعلم أنه لا يتخلى له عن الأمر، فقال له يا ابن عم: (انزل أوصيك)، فنزلا معا وجلسا، فقال أبو بكر: (إني قد وليتك هذا الأمر وإني مسؤول عنه، فاتق الله في المسلمين واعتقني واعتق نفسك من النار ولا تضيع من أمور رعيتك شيئا فإنك مسؤول عنه. والله يصلحك ويمدك ويوفقك للعمل الصالح والعدل في رعيتك وهو خليفتي عليك وعليهم)، ثم ودعه وانصرف إلى الصحراء فأقام بها مواظبا على الجهاد في كفار السودان، إلى أن استشهد». ما ذكره الناصري في «الاستقصا»، نجده عند ابن خلدون، الذي كتب عن علاقة أبي بكر بن عمر ويوسف بن تاشفين وزينب النفزاوية: «حتى إذا ارتحل (يقصد أبا بكر) إلى الصحراء سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة واستعمل ابن عمه يوسف بن تاشفين على المغرب، نزل له عن زوجه زينب هذه فكان لها رياسة أمره وسلطانه، وما أشارت إليه عند مرجع أبي بكر من الصحراء في إظهار الاستبداد حتى تجافى عن منازعته، وخلص ليوسف بن تاشفين ملكه».