حياة الفنان المغربي حميد بنمسعود، الذي اشتهر في السينما العالمية باسم "حميدو" ، تزخر بالكثير من اللقطات، التي تجسد مسارا فنيا متميزا، أكسبه شهرة واسعة، دون أن يتخلى يوما عن تواضعه وبساطته، وهو الذي وقف تحت الأضواء إلى جانب نجوم هوليوود. في هذا اللقاء معه، نستعين بتقنية السينما ، في محاولة للغوص في أعماق نفسه، ورصد رحلته الفنية. اللقطة الأولى: تصوير داخلي. في كامل أناقته يجلس الممثل المغربي حميدو بنمسعود في صالون الاستقبال في بيته في المدينة القديمة بالرباط، متحفزا كأنه يستعد لتشخيص دور سينمائي جديد، وخلفه على الجدران صور قديمة من أدوار ه على الشاشة. الوجه حليق، والهندام عصري وحديث، والصوت يتدفق بالحديث مثل ينبوع غزيز . اللقطة الثانية: المشهد استرجاعي (فلاش باك). المكان : جناح المحكومين بالإعدام في أحد سجون فرنسا، "حميدو"، وهو يومئذ ممثل شاب في الخامسة والعشرين من عمره، ينتظر إشارة البدء بالتصوير، بعد أن مكث في هذا الجناح 15 يوما،ليعيش التجربة نفسيا، قبل تجسيدها فنيا بكل أبعادها. إنه لايعرف بالضبط تفاصيل اللقطة، لأن من عادة المخرج الفرنسي كلود لولوش،ألا يطلع ممثليه على السيناريو والحوار من قبل، لضمان العفوية في أداء بعض اللقطات. فجأة يقبل المخرج، تشتعل الأضواء لتغمر المكان بأشعتها الساطعة،يرتفع الستار الأسود، لتظهر المقصلة الحديدية. تكبر عيون " حميدو" من الدهشة الممزوجة بالخوف، يجف الريق في حلقه، وهم يضعون رأسه في المقصلة.هاهو يري الموت وجها لوجه، تهبط الآلة الحادة على عنقه مثل قدر محتوم. أخيرا يتنفس الصعداء : الحمد لله لم يصب بأي أذى. المخرج لولوش يصرخ من فوق كرسيه وراء الكاميرا بحماس:" سطوب..برافو". هذا المشهد مازال راسخا في ذاكرة " حميدو"، بكل تفاصيله. يتذكره كأنه حدث بالأمس القريب فقط:" كنت مازلت في بداية المشوار الفني، ولم يكن لي حق النقاش أو الرفض، وأسند لي المخرج كلود لولوش بطولة فيلمه" حب، حياة، موت". أعجبني مضمونه الإنساني الموجه ضد عقوبة الإعدام التي تحرم المرء من نعمة العيش. قلت يومئذ في نفسي: هذه هي فرصتي لإثبات ذاتي، وهكذا كان.." خرج الفيلم إلى العرض في دور السينما، وتلقفه النقاد بترحاب كبير، وبفضله فاز "حميدو" بجائزة دولية في مهرجان سينمائي عالمي. ومن هنا أخذت صورته تلمع تحت الأضواء فوق واجهات السينما في عواصم العالم. اللقطة الثالثة: المكان : شارع الشانزيليزي، الشمس تمسح باشعتها وجوه العابرين والعابرات، وكراسي المقاهي، وواجهات المتاجر والمحلات. وسط الزحام يبدو شاب محاط بالناس، يطلبون توقيعه على " الأوتوغراف". تقترب الكاميرا من تقاسيم وجهه في لقطة مكبرة. إنه الممثل حميدو بنمسعود، وقد بدأ يقطف ثمار التألق، ولكن النجاح له ثمن...ومعاناة. يستحضر تلك اللقطة:" كنت لتوي عائدا من المهرجان السينمائي الدولي لريو سنة 1969، متوجا بجائزة بجائزة أحسن دور رجالي في فيلم "حياة ،حب موت" للمخرج كلود لولوش، وقد تحدثت عني أجهزة الإعلام، ولكن جيبي يفتقد للدفء، لامورد مادي لي، لا من المغرب، ولا من فرنسا، وتعويضي عن المشاركة في الفيلم لم تكن كافية، باعتباري يومئذ ممثلا ناشئا، لا حق لي في فرض شروطي، والدرب مازال طويلا، ولا خيار أمامي سوى الصبر والمكابدة والتحمل. ليس لي ثمن لشراء " سندويتش" في شارع " الشانزيليزي" الذي كان الناس فيه يطلبون توقيعي. وليس لي ماأدفعه في اخر الشهر مقابل كراء البيت. جائزة عالمية مثل هذه كفيلة بأن تضمن لمن يفوز بها العمل في السينما لمدة عشرين عاما، وأنا انتظرت ثلاث سنين بعدها ليأتيني الدور الجديد الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر. كان هناك صديق ، صاحب مطعم، جازاه الله خيرا،بقيت أتردد عليه، إلى أن تحسنت الأحوال. عشرون سنة الأولى، كلها كفاح، بأدوارها وعروضها وأفلامها..تذهب كممثل مدعو إلى المهرجانات بسيارات المرسيديس، وعند التوقيه يواجهك المنتج السينمائي بالحقيقة المرة:" أنت كممثل مغربي لاتملك نفس مكانة الممثل الفرنسي أو الأمريكي". ولا ننسى أيضا دور اللوبي الصهيوني في أوساط صناعة السينما العالمية، إنه حاضر بقوة، ويحارب صاحب كل اسم عربي. في الخارج يصنعون فنانيهم، ويوفرون لهم كل فرص الانتشار، عبر الآلة الدعائية، للارتقاء بهم إلى أفاق الشهرة. غاري كوبر ومارلون براندو مثلا في الولاياتالمتحدةالأمريكية. آلان دولون وجون بول بلموندو في فرنسا.. عندنا ، عوض خلق أسماء جديدة، فإنهم يخنقونك، يقولون عنك في غيبتك:" هذا خيي آش كيسحاب ليه راسو؟ "، لاشيء سوى لأنك طالبت بحقك في معاملة تليق بك، وبكرامتك وبتاريخك الفني.." اللقطة الرابعة: تصوير داخلي. المكان: مراكش. الوقت ليل. المناسبة : المهرجان السينمائي الدولي لسنة 2005. الممثل " حميدو" يقف على الخشبة، بمعطفه الطويل،ونظارته السوداء التي تخفي دمعة متحجرة في عينيه. يتقدم بخطى وئيدة، تحت عاصفة من التصفيق، لاستلام درع تكريمه من يد ابنته الممثلة سعاد حميدو. يضمها إلى صدره بكل حنان. كانت له أحزان خاصة، طغت في تلك اللحظة، على كل مشاعره. لقد كان ابنه الشاب قد توفي مؤخرا في حادث مرور مؤلم. إنه جرح لايندمل في أعماق المحتفى به تلك الليلة. أكيد أنه استعرض في مخيلته شريط الذكريات، بحلوها ومرها. أخيرا يلتفت إليه بلده ليغمره بدفء التقدير والمحبة والامتنان. يبوح:" بادرة تكريمي التفاتة ملكية سامية نحوي لاأنساها أبدا. لقد جاءت في توقيتها تماما، وهي التي شجعتني للعودة إلى المغرب، للمساهمة في خدمته فنيا، وأتحمل في صمت بعض الممارسات من طرف بعض المسؤولين، " ولكن شي باس ماكاين". في أكادير ، ايضا، سعدت بتكريمي من طرف المهرجان السينمائي المخصص للهجرة. مثل هذه اللمسات تعطي للفنان الإحساس بان المجهود الذي بذله طيلة حياته لم يذهب سدى، ومن حقه المطالبة بالإنصاف،وذلك بتوفير كل شروط الحياة الكريمة له". اللقطة الخامسة: المكان : السويقة بالرباط، وهي تضج بالحياة والرواج،وروائح التوابل، ونداءات الباعة المتجولين. عبق التاريخ القديم يسكن ذاكرة الأزقة الضيقة. الوقت : منتصف النهار، علم احمر يرفرف فوق بناية " المقاطعة" الإدارية المجاورة لمنزل الممثل " حميدو". هنا يسكن، هنا يفكر، ويحلم. فناء البيت واسع، بهندسة عربية وإسلامية، وأقواس ووسائد، وستائر تتدلى عند الأبواب والنوافذ ، توحي بالهدوء. في لحظة بوح وصدق مع النفس يعترف:" انا سعيد بوجودي هنا، لاأريد استبدال هذا البيت مهما كانت الإغراءات. اخترت العيش وسط هؤلاء الناس، مثل واحد من أبنائهم أو اخوانهم. راحة نفسية وروحية استشعرها، وأنا انتظر صوت المؤذن في المسجد القريب مني خلال أوقات الصلاة. تتثيرني المشاعر الإنسانية السائدة هنا: الرحمة، التوادد، العاطفة، الابتسامة من النابعة من القلب، الاقتراب من الفقراء، التضامن معهم، التحية الصباحية والمسائية،هذه المظاهر افتقدها في باريس،لذلك فإن شارع "السويقة" عندي اجمل من شارع " الشانزيليزي". أحب أن اعيش بقية عمري هنا،إذا توفرت شروط العمل السينمائي. لقد جئت بأسرتي كلها من فرنسا، وسجلت ابنتي الصغيرة في المدرسة. والأمل، كل الأمل،أن يسخر الله كل الأمور في يسر وسلام. تعجبني الحياة هنا لحرارتها وصدقها وانسيابيتها.." لقطات لاكتمال الصورة: بقيت لقطات منتقاة من الحوار، تختصر الكثير من الكلمات. تقترب الكاميرا أكثر من وجه "حميدو"، وهو يتحدث محركا يديه، او يتوقف احيانا لارتشاف كأس شاي: " تعرضت مرارا في حياتي لمحاولة "الإعدام" من طرف أعداء النجاح". " أمضيت سنين من عمري في هوليوود لخدمة السياحة، والتعريف بالمغرب كفضاء طبيعي للتصوير السينمائي. فجأة صدرت الأوامر من الرباط بإغلاق المكتب السياحي في لوس أنجلوس. أحالوني على باريس للقيام بنفس العمل، ونفس المجهود، تحايلوا علي بدعوى عدم الحضور في الساعة الثامنة صباحا. كيف يمكن لفنان أن يلتزم بهذا التوقيت؟. جاء بيير ديغو، وزير السياحة يومئذ، إلى باريس، و" كركبني إلى الشارع بدون موجب حق". "أفكر فعلا في كتابة سيرتي الذاتية، وسوف اكشف فيها الكثير من الأشياء،واخترت لها عنوان "بدون ندم"، لأنني عشت حياتي بدون حسرة، رغم ماعانيته فيها من متاعب وإكراهات. ولو عاد بي التاريخ إلى الوراء،لسلكت نفس المسار، ببؤسه وجوعه وكفاحه من اجل الصمود الفني. لقد كنت مرتاحا مع ضميري ونفسي ،مؤمنا بالله، متمسكا بقيم التسامح. في وطني أشعر أنني أسبح فوق غيمة من السعادة، رغم ما ألاقيه أحيانا من طرف أناس "كيكرفسوني ويدفعوني للخروج من بلادي"، وانا أتحمل كل تلك الفظاعات والمظالم، نظير ماأجده من عطف، في سبيل الإسهام في دعم العمل السينائي". " المغرب من أجمل بلاد الدنيا بروافده وإشعاعه وموارده الطبيعية والبشرية، ولكن الحياة الفنية فيه جحيم لايطاق..ومن مظاهرها التطاحن..والصراعات". اللقطة الأخيرة: "حميدو " يدقق النظر في ساعته اليدوية. لقد اقترب موعد خروج ابنته الصغيرة من المدرسة، ولا بد من أن يذهب ليرافقها في رحلة العودة إلى البيت. إنه ، هنا، يقوم بدور الأب في الواقع، بعيدا عن السينما. وهذا هو أجمل الأدوار في حياته وأقربها إلى قلبه. *مجلة " الإنسان الجديد" يناير 2006