في العشرين من شهر أغسطس (آب) من كل سنة يحتفل المغاربة بذكرى حدث جلل له في الوعي الجماعي مكان متميز، وهو في الذاكرة الوطنية مليء بالدلالات والرموز: «ثورة الملك والشعب». فكيف أمكن لهذا الجمع بين الملكية والثورة والشعب أن يكون ممكنا في المغرب المعاصر؟ ظهيرة 20 أغسطس 1953 (في حين كان المغرب مستعمرا من قبل فرنسا بموجب عقد الحماية المفروض على البلد منذ مارس/ آذار 1912) أقبل المقيم العام الفرنسي، بمعية كتيبة من الجيش الفرنسي، على اقتحام القصر الملكي واعتقال الملك محمد الخامس وأسرته الصغيرة واقتاده إلى المطار، حيث نقلته طائرة عسكرية فرنسية إلى جزيرة كورسيكا أولا ثم نفيه بعد ذلك إلى جزيرة مدغشقر التي كانت في ذلك الوقت ترزح بدورها تحت السيطرة الاستعمارية. الواقع أن محاولة أولى لنفي محمد الخامس قد تمت من سنتين قبل ذلك، غير أن السلطة الاستعمارية تخلت عنها في آخر لحظة فيما يبدو، كما أن مطالبة للملك بالتنحي عن العرش قد سبقت الاعتقال والنفي. والواقع أيضا أن الحماية الفرنسية كانت تعد محمد بن يوسف (وهو الاسم الشعبي المحبب للمغاربة طيلة سنوات الكفاح الوطني من أجل التحرر) عدوا جعلت هما لها التخلص منه بكل سبيل. كانت المحاولة الأولى إحداث عزلة بينه وبين النخبة الوطنية ممثلة في الحركة الوطنية الشابة التي واكبت نشأتها اعتلاء محمد الخامس العرش المغربي، لكن ما حدث كان عكس ذلك تماما، إذ منذ السنوات الأولى أخذت أسباب التفاعل الإيجابي تقوى بين شباب الحركة الوطنية الفتية والملك الشاب. تجلى ذلك في محطات تاريخية ورمزية كبرى لا يتسع المجال لبسط القول فيها، ولكننا نشير إلى عناوينها البارزة؛ الأولى هي الانتفاض في وجه ما اشتهر باسم «الظهير البربري» عام 1930، وكان الغرض منه هو التفرقة القانونية، بين المكونين الثابتين للكيان المغربي كالعرب والأمازيغ، وإذا كان هذا الانتفاض يعلم على البداية الفعلية للحركة الوطنية المغربية فهو يوقع عقد الميثاق العلي بين هذه الخيرة والملك الشاب. والثانية كانت هي «مطالب الشعب المغربي» عام 1934 التي تقدمت بها الحركة المشار إليها إلى إدارة الحماية الفرنسية مطالبة فيها بتطبيق بنود «الإصلاحات» التي نص عليها عقد الحماية (ومن الطبيعي أن الاستجابة لتلك المطالب كان يعني الإلغاء العملي لعقد الحماية، وإنما هي صيغة أولى ممكنة للمطالبة بالاستقلال، ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تقابل بالرفض والتصدي). وما أثار حنق الاستعمار الفرنسي هو أن «ابن يوسف» أعلن تبنيه لتلك المطالب بدوره ومجاهرته بذلك. أما المحطة الثالثة فقد كانت في مستهل سنة 1944، إذ قررت الحركة الوطنية المغربية الانتقال في العمل السياسي من المطالبة بتطبيق الإصلاحات التي ينص عليها عقد الحماية على المطالبة الواضحة باستقلال المغرب. والملك الشاب (الذي سيتضح فيما بعد أنه كان متابعا ومرافقا عمليا لمراحل الإعداد لوثيقة المطالبة بالاستقلال) هو الذي قام بتسليم الوثيقة إلى المقيم العام الفرنسي في المغرب مثلما أعلن مباركته لتسليم الوثيقة إلى الدول الكبرى، كما أنه لم يكف عن تلك المطالبة. بعد أقل من ساعة واحدة على الإعلان عن اعتقال محمد الخامس وأسرته الصغيرة سيصدر الزعيم المغربي علال الفاسي من القاهرة نداءه الشهير الذي سيضمه كتاب سيصدر له تحت عنوان «نداء القاهرة». سيكون النداء أشبه ما يكون بالنداء الذي أصدره من لندن الزعيم الفرنسي شارل ديغول في حين كانت فرنسا ترزح تحت الاحتلال النازي. ستتوالى نداءات وأحاديث علال الفاسي من إذاعة «صوت العرب» لا لتكون فقط قولا في «المسألة المغربية»، (كما كان يقال في ذلك الوقت)، بل كانت حديثا شاملا يتحدث عن المغرب العربي، وكان في الغالب حديثا على لسان مكتب المغرب العربي في القاهرة. ولعلي أغتنم الفرصة لأقول إن صاحب «نداء القاهرة» لم يكن رئيسا لحزب الاستقلال فحسب، ولكنه يُعَد مؤرخا لحركة التحرر الوطني في المغرب العربي بالنظر إلى دقة كتاباته وغزارتها في الموضوع. والحق أن الفاسي يرسم للملك محمد الخامس صورة دقيقة صادقة معا في «نداء القاهرة» خاصة يمثل بها رجل إصلاح كان أول ما بدأ به التوجه إلى مراجعة وإصلاح الكثير من العادات السلبية التي «استشرى أمرها قبل عهده، وتطهيره أيضا من العناصر التي بثها الفرنسيون فيه (...) والتفت إلى الناحية الدينية، فأشرف بنفسه على حركة الإصلاح الديني وقاوم أدعياء الطرق الدينية وقضى على كثير من طقوسهم». ثم كان بعد ذلك مناضلا وطنيا وزعيما استطاع في جرأة كبيرة أن يوجه من خفاء حركة التحرر الوطني وأن يكون قائدها الفعلي. وفي كلمة واحدة استطاع أن يضيف إلى الشرعية التاريخية التي كان يتمتع بها بموجب العقد الضمني مع الشعب المغربي، شرعية ثورية نالها بموجب ما ناله من النفي والإبعاد ومن أشكال المضايقات المختلفة من قبل الإدارة الاستعمارية في المغرب. كتبت في الأسبوع الماضي «العفو الملكي والمجتمع المدني»، متحدثا عن التقاء يسترعي النظر بين المجتمع المدني في المغرب وما أبان عنه من قدرة على القيام بالدور الأساسي الذي يلزم للمجتمع المدني في الوجود السياسي المعاصر وما به تنهض الدولة الحديثة وتسعى نحو تحقق ماهيتها. كما أنني نوهت بما أظهره الملك محمد السادس من جرأة على الانتفاض في وجه الثقل الذي يكون به من العسير على الملك أن يراجع أمرا أمضاه بالأمس ثم تبين له لا حقا وجود جوانب من السلب تلفه، ثم إنني نبهت إلى إقدام الملك على الجنوح إلى التأويل الإيجابي للاحتكام إلى الدستور المغربي كلما استوجب الأمر ذلك. وما أود قوله في ذكرى ثورة الملك والشعب هو أن هذا الحرص على التأويل الإيجابي للدستور الذي ارتضاه الشعب المغربي قمين بأن ينفث روحا جديدة في هذه الآصرة العظيمة التي تربط الشعب بملكه في المغرب. "الشرق الأوسط"