كان العربي يشكو من الجمود المقيم. وخالجه شعور بأن لمنطقتنا منطقاً آخر، وخصوصية تحميها من الرياح التي لفحت أحياء أخرى في القرية الكونية. وكاد العربي أن يسلّم بأن الجمود قدر لا يمكن زحزحته. وأن الجسد يرفض على نحو قاطع أي تسرّب للدماء الجديدة أو الهواء الطازج، وأن مجرد طرح سؤال عما هو قائم يُعتبر اعتداء، وأن تكرار السؤال يُعتبر خيانة، وأن التمسك به يعني الضلوع في مؤامرة خارجية وتنفيذ أجندة أجنبية. قلّص العربي مطالبه الى الحد الأدنى أو الى ما هو أدنى منه. اكتفى بالسلامة وانشغل بهموم الخبز وتعليم الأولاد وتأمين الماء والكهرباء. لكن هذا الانكفاء رافقه شعور مكتوم بالقهر والعجز والإحباط والغضب. الصحافي العربي أيضاً انتابه شعور بأن الجمود قدر. يذهب لإجراء مقابلة مع زعيم وينشرها في مطبوعته. ويرجع بعد ربع قرن الى العاصمة نفسها فيستقبله الزعيم نفسه ويُسمعه كلاماً مشابهاً مع إضافة بعض المفردات الجديدة التي يقتضيها القاموس الدولي الجديد. لم يكن سراً أن نظام زين العابدين بن علي ليس جذاباً للشعب التونسي. لكن لم يكن متوقعاً أن ينزل الناس الى الشوارع ولا يجد الرئيس خياراً إلا المنفى. كان واضحاً أن نظام حسني مبارك قد هرم، وأن مشروع التوريث لن يمر. لكن لم يكن متوقعاً أن يحتل الناس الساحات وأن يأمر القضاء بتوقيف الرئيس وكبار معاونيه. لم يكن أحد يتوهم أن الشعب الليبي يرفل في سعادة غامرة بفضل إبداعات «الكتاب الأخضر» ومغامرات القائد جواً وبراً وبحراً. وعلى رغم ما بُذل وأُنفق في تلميع صورة سيف الإسلام لتقديمه كعاشق للتحديث والإصلاح، كان الشعور السائد أن معمر القذافي لن يفرج عن ليبيا والليبيين ما دام فيه عرق ينبض. وكان باستطاعة زائر صنعاء أن يشعر في السنوات الأخيرة بأن نظام الرئيس علي عبدالله صالح يتعرض لاستنزاف غير عادي. سلسلة حروب مع الحوثيين. حضور متزايد ل «القاعدة» على التراب اليمني. يقظة طموحات الاستقلال أو الانفصال في الجنوب. واتساع المعارضة في الشمال وسط تزايد الحديث عن مشروع توريث واتساع شبكات الفساد. وعلى رغم ذلك لا يمكن القول إن نظام صالح بات معزولاً. ولم يكن متوقعاً أن تشهد الساحات ما تشهده مصرّة على رحيله على رغم تعهده بأن تكون ولايته الحالية الأخيرة وأن التوريث غير وارد. وكان باستطاعة زائر دمشق أن يلمس أن الجهود السورية انصبت في العقد الماضي على الاهتزازات الكبيرة التي شهدتها المنطقة بدءاً من الغزو الأميركي للعراق ومروراً بحرب تموز في لبنان ووصولاً الى الحرب على غزة. ولم يكن سراً أن عملية الإصلاح في الداخل كانت بطيئة، وأن حزب البعث لم يُظهر قدرة على التكيف مع المرحلة الجديدة، وأن الانفتاح الاقتصادي لم يحمل نتائج ملموسة الى المواطنين الذين كانوا يتوقعون تحسناً في ظروفهم المعيشية. لكن لم يكن زائر دمشق يتوقع أن تشهد سورية ما تشهده، سواء لجهة الاحتجاجات أو أسلوب التعامل معها. فاجأت العاصفة الحكومات والأجهزة الأمنية. وفاجأت المراقبين أيضاً. ثمة ما هو مشترك بين مسارحها، وثمة ما هو مختلف فيها تبعاً لتركيبة كل بلد. بعضها جاهز لاحتضان ثورة أو تغيير شامل. وبعضها ينذر بالانزلاق الى حروب أهلية وانفجار كيانات. إننا في البدايات، لكن الواضح هو أننا ندفع ثمن عقود من الجمود وثمن الفقر والقهر والتهميش وغياب المشاركة وانسداد الآفاق أمام التطوير الهادئ.