تتردد قضية إصلاح العلاقات القائمة بين الملك وبين الجهاز التنفيذي على جميع الألسنة، وهي تفرض نفسها بصفتها حجر الزاوية في الروتوشات التي ستلحق بنص الدستور. في الواقع، وبعيدا عن أشكال الحذف والإضافة التي من المنتظر أن تلحق بالدستور، فان المسألة كلها سوف تكون مسألة قراءة وتأويل، وبالتالي يجب ان يكون هناك وعي تام بهذا حتى لا يحل الاستبهام محل الواقع. إن نص دستورنا الذي سيرى النور قريبا سيكون مشابها على الأرجح، وفي مستويات متعددة، لدساتير أخرى، وبخاصة في أوربا. وذلك على الرغم من كونه سيظل في العمق مختلفا عنها اختلافا جذريا. إن السؤال الحقيقي إذن هو المتعلق بمعرفة أي نموذج نسبح فيه نحن؟ لقد كان ملك بريطانيا رئيسا للكنسية الانجليكانية، أي كان يتقلد ما يشبه أمير المؤمنين. غير أن تحكمه في ممتلكات الكنيسة كان قد لعب دورا كبيرا في تحقيق الرأسمالية والديمقراطية في بلاده على المستوى البعيد. لذلك يجدر بنا دائما ألا نستبعد السياق، وإلا غرقنا في العموميات وفي عقد التشابهات المغلوطة. ومن ثم، فإن الدستور المغربي، إذا قرئ في ضوء طبيعة علاقة السلطة السائدة في مجتمعنا، من شأنه ان يفضي الى محتوى آخر يختلف عن المحتوى الذي عودتنا عليه التأويلات المتداولة عندنا كثيرا. ولهذا السبب، ينبغي علينا ان نعي طبيعة التحول المأمول، والحدود التي تعوقنا. فعندما نتحدث عن الثورة، فإن ذلك لا يعني بالضرورة استعمالا للقوة بغاية قلب نظام ما. ذلك لأن الانقلابات العسكرية، رغم طابعها العنيف، لم تنجب في الغالب الأعم إلا عددا من الدكتاتوريات في العالم. بالإمكان مع ذلك مشاهدة قطائع وتحولات بنيوية حقيقية بإمكانها ان تتطلب مدة تاريخية طويلة الى حد ما، وذلك حسب الظرفية التاريخية وطبيعة المجتمع وعلاقات القوة السائدة. تلك هي وضعية المغرب إذا ما عرفنا كيف نقيم الفرق بين الواقع وبين الوهم، وإذا كنا نرمي الى مشروع واضح للدخول في الحداثة. ضمن هذه الروح يكون من الملائم أكثر، لاعتبارات متعلقة بالتحليل، الحديث عن القصر عوض الحديث عن الملك، بهذه الطريقة سوف نأخذ بالاعتبار اكثر الملامح التاريخية والبنيوية لمؤسسة القصر. من هذه الزاوية يعتبر القصر قلعة، وهو على اية حال واحد من المعاني التي تنطوي عليها الكلمة في اللغة العربية، وهو المعنى الذي تشكل تاريخيا، والذي اقيمت جسوره نحو الخارج وضبطت بهدف التنظيم الفعال حركة الذهاب والإياب بين القطبين. وللاقتناع بذلك، يكفي التذكير هنا بالتسميات الخاصة بهذه الجسور التي تقوم بدور الرابط مع الفضاء الملكي "الاعتاب الشريفة" "الجناب الشريف". بناء على هذا من الأجدر إذن تحليل علاقة القصر بالمجتمع وإخضاعها للنقاش. إن الحديث اليوم، بكثير من الخفة والشعبوية أحيانا، وبصورة مبتذلة مثل الحديث عن إلغاء تقبيل اليد، أو "تنظيف" محيط الملك، من شأنه أن يحجب الموضوع الحقيقي المتمثل في تأسيس وإقامة عقد اجتماعي جديد. من هنا إذن تنبع تلك السرعة التي تضرب التخييلات على حساب فعل مفكر فيه وممتد في الزمن. إن صحبة الملك ليست مشكلا يتعين الوقوف عنده طويلا. إنها قضية خاصة بالملكية يجب، على أكثر تقدير، مثلما هو الأمر في أمكنة اخرى أن تتصل بالعلاقات العمومية وليس بالمستوى السياسي. المشكل بالعكس يكمن في الشفافية وفي عملية اتخاذ القرار في مختلف مستويات الدولة، وأشكال التحكيم التي تستدعيها. من البديهي، في الحقيقة، أن إعادة تشكيل العلاقات بين المؤسسة الملكية ومختلف الهيئات التمثيلية للدولة والمجتمع، في منطقها العميق، وحسب المعايير التي لها صلة بحكامة فعالة، تستدعي بالضرورة تعديل هذه التفاصيل التي تتداول بشكل كبير في وسائل الاعلام، ومعالجتها معالجة خاصة. إعادة البناء هذه، التي يمكن تأملها بصورة شمولية ولكن منظمة، في الوقائع، من خلال إعادة تنظيم متتالية، تعد ضرورية لبناء سياسة تروم التقدم والديمقراطية. لابد من الإشارة الى ان الملكية المغربية تظل، بحكم موقعها الحالي، كقطب مركزي له علاقة وطيدة بمجموع الهيئات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا محيد لها من اجل اتخاذ القرار الفعال. فعلاوة على المساهمة في اتخاذ قرار متعدد ومبني ديمقراطيا بصورة تدريجية، فإن الشفافية والسيولة المشار اليهما سابقا، كفيلان بإبعاد تدخل للفاعلين في الظل، الذين ليست لهم علاقة رسمية بمؤسسات وهيئات الدولة. بل إنهم علامات مضرة ومشوشة تعمل على التسبب في أشكال خلل خطيرة في الحياة السياسية والاقتصادية على حد سواء. ومن ثم، فإن إعادة البناء يكمن هدفها الأولي، من بين أهداف أخرى، في سحب البساط من تحت رجلين راسيتين كما يقال، من خلال إعادة بنية الجسور القائمة بين القصر وبين الجهازين التنفيذي والتشريعي. لكن على ماذا تقوم إعادة البنية هذه؟ إنها تقوم باختصار، على فك رموز القلعة التي تسمى القصر باعتبارها مؤسسة تاريخية. وللعودة الي المعجم التقني المتعلق بالقصر، فإن الامر يتعلق بفك رموز السدة العالية بالله. ولابد من الاعتراف لمحمد السادس بكونه أبان، في بداية اعتلائه العرش، عن إشارات تتعلق بالإرادة الحسنة على هذه المستوى، وهو أمر لا يمكن ان يكون مشجعا. ولكن نعبر عن هذه الامور بطريقة اخرى، نقول إنه من المستعجل الحرص كثيرا على تقليص المسافة بين القصر وبين الحكومة، ليس فقط من خلال النقل التدريجي لاتخاذ القرار، بل كذلك من خلال إقامة تسنين قابل للقراءة في إطار شراكة يتم احترامها، حتى لا تتم إعاقة، بل وتعطيل لوقت معين للاشتغال. يتعين على المغرب، بعبارة اخرى، أن يتوفر على جهاز للدولة منسجم بطريقة شمولية، افضل تمركزا وافضل اندماجا. ففي هذا الإطار يمكن أن تطرح كذلك ويمكن ان تحل قضية الطقوس الخاصة بالقصر، والتي يمكن انطلاقا منها مناقشة العتاقة المحتملة إذا ما تبين انها تتصل بعلامات بارزة للاسترقاق. إن فك الرموز يتضمن في الواقع اضفاء الشرعية على بروتوكول يغرف من التقاليد، غير أنه يرفض كل علاقة قمنية بالمس بكرامة الانسان، وبصورة البلاد. إنه إكراه الحداثة، وربح لمصداقية الملكية، هذا فضلا عن أنه مع النقل المرتقب للتخصصات فإن القصر سيكون له دور مركزي يلعبه في هذه الصورة. وبناء عليه، وهذه نقطة مركزية بالنسبة الى التعاقد الجديد، فإن الهالة لا ينبغي ان تتحكم في ممارسة السلطة، في الشكل وفي المضمون، ينبغي ان نتجنب في مرحلة اولى، وبأسرع مما نعتقد، الأخطاء التي كلفت بلادنا الشيء الكثير في الداخل كما في الخارج، والتي لا ندري من عليه ان يقدم الحساب ولمن! إن صعوبة مثل هذه المهام تكمن في الضعف الكبير للقوى السياسية في البلاد، وفي القليل من المتطلبات التي تعلن عنها، وهي متطلبات لا تمثل اغلبية الشعب ولا حتى قواها الحية. ثم إنها لا تتوفر على رؤية واضحة في تصور مستقبل البلاد. فرؤساء هذه القوى، والذين يقيمون علاقة جيدة بالسلطة، تربطهم علاقة استرقاق إرادية بالملكية، وهي العلاقة الوحيدة التي يمكن أن تضمن لهم بالفعل البقاء لمدة طويلة على رأس تشكيلاتهم السياسية. فهي لا تشكل عوامل ديانمية للتقدم والديمقراطية، بل يمكنها ان تعبر عن إحساس بالتردد والريبة إزاء مبادرات التخلي عن الطقوس العتيقة بالقصر. هناك صعوبة أخرى عميقة تكمن في العقليات وفي الثقافة. إن المكانة الرئيسية دائما للعامل الديني تجعل من الاحتكام الملكي عنصرا لا يمكن تجاوزه الى اليوم، ويظل بديله ليس فقط غير مسموع بل وغير مفكر فيه كثيرا. وتعتبر السمة الشريفة التعبير البارز الذي يجعل ممارسة السلطة بالضرورة ثمرة إرث. ومن ثم فان الثورة الحقيقية هي المتمثلة اولا في ظهور وسيادة نموذج جديد كفيل بأن يضع اسسا جديدة لعلاقات السلطة، فلم يعد بالإمكان وضع العربة أمام الخيل. ثمة مظهر آخر مرتبط بطبيعة الدولة، وهو المتمثل في العلاقة بين السياسي والاقتصادي. هنا أيضا لابد من تفكير عميق وإصلاحات عميقة. ففي أوربا، في الانظمة التي أفضت الى الليبرالية، كانت البنيات الاقتصادية والاجتماعية، لكي نبسط الأمور، قد سبقت إقامة الدولة، ومن ثم فقد وجد المستوى الاقتصادي نفسه في القيادة. أما في فضاءات الحكم الاستبدادي الشرقي، فإن العكس هو الذي حصل. في المغرب، سقطت الدولة "من السماء" إذا صح التعبير، وذلك بفضل العائلة الشريفة بالخصوص. ومن ثم، فقد تحكم العامل السياسي وفرض حياة قاسية على العامل الاقتصادي، وأذاقه الأمرين. فالأمر لا يتعلق البتة بالاشخاص ولكن بالبنيات، وهو الأمر الذي تنبغي الاشارة اليه لتجنب مقاربات مغلوطة للمسألة. إن هذه المسألة، في مغرب حديث يسعى الى ان يكون ليبراليا، لا يمكن أن نجد حلا لها إلا في إطار إعادة توزيع جديد للأوراق، وفصل واضح بين ممارسة السلطة السياسية وبين قيادة الأعمال الخاصة. هكذا يتبين أن أوراش الإصلاحات متعددة، وليس من السهولة دائما الإطاحة بها، مثلما لا يمكن اختزالها الى مجرد القيام بمراجعة الدستور. إن هذه الأوراش تتطلب شجاعة وإرادة قوية وصادقة، وإبداعية والتزاما مواطنا لبلادنا عندما نحبها، وهي أوراش تبرز في الوقت ذاته بأن أشكال المقاومة ينبغي حملها على محمل الجد، وبأنها أحيانا لا تتصل بالآخر. لهذا السبب لم نتحدث عن الاسترقاق عبثا.