محمد المباركي تمهيد كان من الأجدى تخصيص هذا الفصل لمنهجية غرامشي الفلسفية عامة وللمادية الجدلية خاصة، الا ان النقاش في هذا الباب سيدخلنا في معالجة قضايا لا يتسع لها المجال في حيز مقالات جامعة، حتى يتم التطرق لمختلف الجوانب الفلسفية التي عالجها غرامشي والتي هي في العمق استنتاجات من كتاباته المختلفة خلال ممارسته السياسية كمثقف عضوي. هذا باستثناء كتابات غرامشي الخاصة بالفيلسوف الليبيرالي أنطونيو كروص. الفيلسوف الذي تأثر به غرامشي كثيرا في شبابه والذي يعد من أهم الفلاسفة الماديّين التجربيّين. لقد طور كروص نظرية الدولة عند هيجل لكنه رغم منهجه التاريخاني، شأنه شأن فرباخ في هذا، بقي ينظر للدولة ككيان مهيمن خارج المجتمع. النظرة التجريبية للتاريخ التي انتقدها ماركس ماركس ولينين كون الدولة كيان ليس خارج المجتمع، بل ضمنه يمثل مصالح طبقية. ذلك أنه حسب المفهوم الماركسي الكلاسيكي، الدولة أداة بيروقراطية – جيشن بوليس، إدارة – في خدمة الطبقة أو التحالف الطبقي المسيطر. وفي المقابل هناك الطبقات المضطهدة (بفتح الهاء) بقيادة الشغيلة/البلوريتاريا التي ستقوم بثورتها البلوريتارية أي العمالية، للاستيلاء على السلطة وبناء المجتمع الاشتراكي. كتطوير لهذا المنظور الذي ساد داخل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية وبعدها الأحزاب والتنظيمات الشيوعية، يأتي غرامشي وان لم يعاكس المنظور السياسي لماركس ولينين في العديد من جوانبه، ليطور المنظور المادي للتاريخ بشكل ملحوظ. متجاوزا بذا الفهم الميكانيكي للمادية التاريخية وانعكاساتها السلبية على الممارسة السياسية للصراع الطبقي. ومن هنا ستظهر أهمية العامل الثقافي الذي كان غائبا في الطرح الماركسي الكلاسيكي الذي يضع تعارضا مبدئيا بين البنية الفوقية/الدولة والبنية التحتية/المجتمع. ادراج العامل الثقافي كعامل أساسي، فتح مجال العمل السياسي وأبان دور المجتمع المدني في الصراع الطبقي و التغيير الديمقراطي خارج دوامة العنف و العنف المضاض. هكذا عوض التعارض بين البنية السياسية الفوقية/الدولة و البنية الاجتماعية التحتية/المجتمع المدني، فان العامل الثقافي يسمح بوجود وحدة ثنائية بينهما، وذلك عبر الدور الأساسي المجتمع المدني. ومنه مفهوم الهيمنة الثقافية/السياسية داخل المجتمع المدني للوصول الى السلطة. هذا يعني أخد العامل الثقافي في ديناميته التاريخانية أكبراكسيس/كدينامية سياسية لنشر الوعي الطبقي أي الاشتراكي داخل مجموع الطبقات عبر تأطير المجتمع المدني – أحزاب، نقابات، جمعيات… نظرا للكتابة تحت مقص الرقابة مفهوم المجتمع المدني في مساهمات غرامشي بالسجن أخذ عدة وصفات. مرة يشير الى كل الطبقات المكونة للمجتمع بما فيها الطبقة البرجوازية. ومرة يحصرها في الطبقات الشعبية، لكن الأهم هو في كل هذا يتم التأكيد على أهمية نشر الفكر التحرري الاشتراكي بين مجموع الفئات الشعبية وخاصة بين طبقة الشغيلة والفلاحين ومنه دور المثقف العضوي. وهذا مفهوم آخر من نحث غرامشي والذي يستلزم الوقوف عند. وبالتأكيد لاستيعاب أفكار غرامشي وجب استنتاجها من تحليلاته ومواقفه السياسية المتطورة على الدوام. ما أن تفتح بابا حتى يلاقيك باب جديد. الأمر الذي يجعل غير الملمّ بتطور الفكر الغرامشي، يجد نفسه أمام تناقضات جمّة، مثله في هذا، مثل الفقيه الذي لا يميز بين أسباب النزول و الناسخ و المنسوخ. 1 – مفهوم الهيمنة الثقافية عند غرامشي سطر الكاتب الإنجليزي بيري أندرسن في كتابه "حول غرامشي"، منشورات مسبرو الفرنسية عام 1978، وهو من أهم المختصين في دراسة كتابات اغرمشي الى جانب ماريا أنتونيطّا ماكييوشي. والذي أكد أن أهم فقرات "دفاتر السجن" التي تناولتها الأقلام تهتم بالتعارض الذي وضعه غرامشي بين التشكيلات السياسية القائمة في "الشرق" والموجودة في "الغرب". والمقصود بالشرق نوعية الدولة القائمة في المجتمعات البدائية التكوين، كالمجتمعات الاقطاعية واللاهوتية والبيروقراطية. وبالغرب المجتمعات الحديثة التي بها مؤسسات ثابتة ومجتمع مدني متطور. لم يعالج غرامشي مفهوم الهيمنة الثقافية كفاعل سياسي مضوعا جاهزا للدراسة، بل ضمنه بهذا الشكل أو ذاك في عدة مواضيع من مقالاته الصحفية قبل الاعتقال وخاصة في كتب "دفاتر السجن". لتدقيق مفهومه حول الهيمنة الثقافية كمدل للهيمنة السياسية أي الوصول الى السلطة لتطبيق المشروع الاشتراكي، أخد كمرجع للبحث وضع الدولة القيصرية بروسيا، التي كان بها مجتمع مدني جنيني غير مهيكل بالكفاية التي تمنحه قوة لعب دور سياسيّ مستقل وفاعل. من هذا المعطي استنتج غرامشي أسباب انهيار الدولة القيصرية بروسيا ونجاح ثورة أكتوبر 1917 بروسيا التي حاولت في بدايتها بناء نظام اشتراكي أي نظام المجالس الشعبية. مقابل الدولة التسلطية في المجتمعات البدائية/الغير الديمقراطية، وضع غرامشي الدولة افي بلدان أوروبا الغربية التي بها مجتمع مدني قائم الذات مستقل وفاعل أساسي في استقرار الديمقراطية التمثيلية. لتوضيح مفهومه الهيمنة الثقافية لجأ غرامشي في برهانه الى التخطيط الاستراتيجي العسكري اي استعمل خلال الحرب العالمية الأولى، ليستخلص منه دروسا بالغة الأهمية، تسمح تشريح الصراع الطبقي في كل من الدولة المستبدة/الدولة الشرقية والدولة الديمقراطية/الدولة ببلدان أوروبا الغربية. خلال الحرب العالمية الأولى فرض الحلفاء على روسيا القيصرية نهج حرب المواقع في مواجهة المانيا والنامسة شرقا. نفس الخطة العسكرية وضعوها لأنفسهم غربا، طول خط ماجينو الفاصل بين ألمانياوفرنسا. الا أن خط المواجهة العسكرية الفاصل بين روسياوألمانيا والنمسا يغطي آلاف الكيلومترات. ينطلق من بحر البالتين شمالا الى البحر الأسود جنوبا. خلاف لخط ماجينو المحدود الطول. زيادة على هذه الملاحظة، استراتيجية حرب المواقع كانت ممكنة بالنسبة لفرنسا وحلفائها وغير صالحة بالنسبة لروسيا. وهذا راجع أولا، كما تمت الإشارة اليه، لشساعة الحاجز الحدودي بين جيوش روسيا القيصرية وجيوش ألمانيا والإمبراطورية النمساوية. ثانيا، في الحين الذي كانت فرنساوألمانيا تتوفرا على مواقع خلفية لوجستية قوية، صناعية واقتصادية حيث يمكن تزويد الخسائر بالعتاد والمعونة في أقرب الأوقات كما كان هناك مجتمع مدني متطور ومنظم وسريع التعبأة. حيث ان هوى موقع أمامي تم تعويضه بسرعة وحتى في حالة انهياره كانت هناك مواقع خلفية صامدة تملأ الفراغ، كما كان المجتمع المدني معبأ وحماسيا لا يقبل بالهزيمة. أما المواقع الأمامية لجيوش روسيا فكانت ضعيفة العتاد والتنظيم ولم تكن لها مواقع خلفية قارة وقادرة امداد المواقع الأمامية بالعتاد والعسكر المحنك حين خلال المارك وخاصة الهزيمة. وهذا راجع كون روسيا القيصرية لم تكن بها مصانع حديثة كافية انتاج الأسلحة والعتاد الحربي بما فيه الكفاية، ولم يكن هناك اقتصاد منتج. زد على هذا غياب مجتمع مدني قادر تعبأة المجتمع. ما يعني أن المواقع الخلفية لجيوش روسيا كانت هشة. لذا عوض اعتماد جيوش روسيا حرب المواقع أي حرب صدامية مستقرة في المكان، كان عليها خوض غمار حرب متحركة لاختراق مواقع العدو. لكن وكما لاحظه غرامشي لقد تم للجيش الروسي اللجوء الى الحرب المتحركة في بعض المعارك وحرز على انتصارات مهمة خاصة على الجبهة النمساوية، الا أن هذا الانتصار كان جزئيا ومرحليا ومحدودا. ذلك أن المواقع الخلفية لكل من ألمانيا والنمسا تحركت بسرعة لردع الهجوم وكانت الخسائر من الجانب الروسي كبيرة. استنتج غرامشي انطلاقا من الاستراتيجية الحربية خلاصات سياسية واجتماعية هامة، طبقها في تحليله على نوع الدولة في المجتمعات الحديثة ونوع الدولة في المجتمعات الناشئة. لقد شبه وجود المصانع الحديثة والاقتصاد المتطور بوجود المجتمع المدني كبنية قائمة الذات وأساسية في بناء الدولة الديمقراطية. وهكذا لاحظ أن المجتمعات الليبيرالية التي تسود فيها ديمقراطية برجوازية، تستطيع تجاوز أزماتها الاقتصادية والمالية والحربية، وذلك لقدرة تكيف الدولة مع الأزمات ودفع المجتمع المدني ليلعب دور الحكم. هكذا عوض اللجوء الى العنف أو حتى في حالة اللجوء الية، لا يتغير نمط الإنتاج ونوع الدولة التمثيلية الناتجة عنه. حيث ان تم إزاحة نخبة سياسية حاكمة تم تعويضها بنخبة سياسية أخرى تسير مجمل السلط. خلافا لهذا الاستقرار المجتمعي عبر تداول السلطة الفعلية، يحصل للدولة المستبدة كما كان الأمر بالنسبة للدولة القيصرية بروسيا. والتي حصل لها ما حصل لجيوشها وهي تخوض حرب المواقع الغير مؤهلة لها. خلافا لثورة أكتوبر 1917 التي لجأت الى حرب متحركة للقضاء على النظام الملكي بروسيا. حيث تم العصف بالبنية السياسية الفوقية للدولة الممثلة في القيصر ومحيطة. وبما أن البنيات الاجتماعية والاقتصادية كانت لازالت هشة والنظام قائم فيها على طريق التسلط والقمع، جعل الملكية عاجزة تحريك مواقع دفاعية خلفية لها داخل المجتمع المدن. ونفس التصور يمكن قياسه على الدول المتسلطة أي الدول الغير الديمقراطية، كما هو حال الدول الاستبدادية والدكتاتورية حيث الثورات أو الانقلابات العسكرية تعصف بدولتها كما حصل للنظام القيصري بروسيا. مما يعني أنه في غياب مجتمع مدني قوي ومستقل كضمانة للممارسة السياسية الديمقراطية عبر التعددية السياسية الممثلة فعلا للفئات الاجتماعية والمؤطر لمجتمع مدني قوي واع وفاعل، تكون الدولة على جمرة نار لا تستقر الا بالاستبداد والقبضة الأمنية الدائمة. وهذا بالضبط عنوان ضعفها وعدم بقائها. سيكون من المفيد القيام بمقاربة نظرية بما جاء به غرامشي وما جاء به ابن خلدون بخصوص صعود وانهيار الدول. حيث يمكن وضع موازاة بين مفهوم الدعوة ودعامتها العصبية لفرض الهيمنة السياسية أي الوصول الى الهيمنة الثقافية عبر الدعوة تم الحكم عبر العصبية عند ابن خلدون. المنظور الذي لازال له تأثير الى هذا الحد أو ذاك في المجتمعات ذات المرجعية التراثية الإسلامية التي يطبعها استبداد السلطة. بالمقارنة الى دور الهيمنة الثقافية داخل المجتمع المدني عند غرامشي كضرورة أساسية للسيادة ثم الوصول الى الحكم بشكل سلمي حيث يتم التناوب على السلطة خارج دائرة العنف المولّد للعنف. سيكون من المفيد تشريح السلطة بالمغرب كظاهرة خاصة. لكنها رغم مجمل الخصوصيات لا تخرج عن نطاق الدولة المستبدة بالحكم. وذلك بالرجوع الى الأسباب التي أدت الى احتلال البلاد بداية القرن الفائت، وما نتج عنه من وضعية سياسية طابعها الاقتصادي المغرب النافع والمغرب غير النافع. والتي تقربنا من الوضعة التي أشار اليها غرامشي بين شمال إيطاليا الصناعي المتقدم اجتماعيا وبين جنوبها الذي كان يسوده الاقطاع المتأخر اقتصاديا واجتماعيا ويعد كمستعمرة لإيطاليا الشمالية. تم التمعن في الدور الثقافي الذي لعبته الحركة الوطنية المغربية منذ ثلاثينات القرن الفائت في نشر ثقافة عامة لحمت مختلف الشرائح الاجتماعية عبر كتلة تاريخية أدت الى استقلال سياسي عام 1956. مع وضع مقارنة لما دعا اليه غرامشي من ضرورة خلف أرضية ثقافية لتوحيد شمال وجنوب إيطاليا على أسس ديمقراطية. وقد يحصل ونحن نساير التحليل، دائما عبر الأداة التحليلية التي عمادها الهيمنة الثقافية، أمكن فهم العوامل الذاتية والموضوعية التي لم تمكن الحركة الوطنية المغربية تسليم السلطة وتركها لأتباع الاستعمار الجديد. التفسير الأول أن الوعي الثقافي الذي روجت له الحركة الوطنية كان وعيا تقليديا عاجزا عن فهم جدلية الصراع السياسي عبر تاريخانية مراحله المتطورة على الدوام، لكل منها افرازاتها الاجتماعية والسياسية الخاصة. ما يعني، كانت نظرة الحركة الوطنية السائدة تحررية في ظاهرها شعبوية في باطنها. بمعنى أنها لم تؤطر الجماهير الشعبية بثقافة حديثة تسمح لها استنباط التناقضات و فهم الصراعات المعلنة و الغير المعلنة حول السلطة. كانت التعبأة لا تتعدى ترديد الشعارات خلال المظاهرات. التفسير الثاني كون المؤسسة الملكية التي كانت تنعت بالقصر، أي ذات سلطة محدودية لا تتعدى جدران القصر، استغلت رمزيتها الروحية كإمارة المؤمنين ومعاكسة الاستعمار، لتنشر هيمنتها الثقافية داخل المجتمع بشكل سريع وذلك في غيات مجتمع مدني قوي ومستقل. عدم نشر الحركة الوطنية الوعي السياسي النوعي داخل الطبقات الاجتماعية مع خلق مجتمع مدني حصين، وذاك عبر أحزاب ونقابات وجمعيات قوية وذات وعي طبقي متين، تمكّن القصر من نشر ثقافة التقديس والغيبيات واللعب على التناقضات بين أطراف الحركة الوطنية من جهة وخلق بدائل طيّعة من جهة أخرى. في مرحلة ثانية عند تولى الحسن الثاني الملك، طغت ظاهرة الحكم الفردي عبر قبضة أمنية شاملة سميت بسنوات الجمر والرصاص. هذا الى جانب سحق كل إمكانية تطور مجتمع مدني قوي ومستقل مع خلق بدائل على مختلف الأصعدة تروج لهيمنة ثقافية المؤسسة الملكية التي تحتكر السلطة الفعلية. سيكون من المفيد الرجوع الى تشريح مختلف العوامل الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تحكمت في تطور هياكل وأسس الحكم بالمغرب على ضوء المنهجية العلمية التي تربط بين الشعوري واللاشعوري في الكيان المجتمعي مع ضبط التناقضات الذاتية والموضوعية لمختلف المكونات الفاعلة في كل حقبة تاريخية من تطور الدولة المغربية، للكشف عن الأسباب الفعلية التي أوصلتها للحالة التي هي عليها. يتبع