بروكسيل : مصطفى منيغ سمعتُ صوتاً أنثوياً رَخِيماً يناديني ، ألتفتت لأتلقَّى بسمة ثَغْرٍ مُنْفَرٍجٍ الشفتين تلاحقني ، من صاحبة الوجه الأبيض وزرق العينين والشعر الأصفر مَن لها العواطف تنحني ، تقديراً لجمالٍ أخَّاذ صراحة بهرني ، كأني بسُوَيْدِيَّةٍ ترتدي جلبابا مغربياً منسوجا بحرير وطني ، بأيادي مغموسة في حنايا فنِّ الخياطة الراقي مبدع الروَّائع المُحتَرَم لدى الأجناس مهما تفرقوا بين كلِّ الدُّنَا كمقامه عندي عند المقارنة عن أي شرح إضافي تغنيني ، نسيتُ أنني في "وجدة" وتحديداً في شارع الصَّابُونِي، ما عشته تلك اللحظة بكل المقاييس سحرني ، لأسأل إن كنتُ لأمر خطير مُسّيَّرٍ أم مجرد غياب طويل عن مثل المتعة تخطف نظري ، لأبْعَدِ خيالٍ يتخطَّى به شاب مثلي حاجز العَوْسَجِ بقدمين عاريتين وخاطر لمتاهة يقودني ، ومتى وَقَفَت (بعد الرُّؤية الحُلم تبدّد ما تلالا وميضه في عقلي) تخاطبني ، تيقَّنتُ أنني في حاجة لمزيد من الراحة صحبة مَن في "عين بني مطهر" تنتظرني ، فما كان عليّ بعد إبلاغي أنها موفدة من قبل المندوب الإقليمي للتعاون الوطني ، إلاّ أن أتبعها صامتاً حيث مقر تلك الإدارة ملبّياً رغبة من بمثل الأسلوب طلبني ، لأتعرَّف فيها على السيد مصطفى العزاوي الذي سيشكِّل بما أقمناه من صداقة صادقة بينه وبيني ، محطة لن أنسى أحداثها الايجابية ما عمرتُ في هذه الفانية أكنت في عين المكان أو مدن "تطوان" أو "العرائش" أو "سيدي إفْنِي" ، اختصاراً تعلّمتُ من تلك المرحلة أن الفائدة المُحصَّل عليها هي أساس الاندفاع للقيام بأي عمل أدبي كان أو فني أو تقني ، والسياسة ضرورية للوقاية من مرض المنافسة العقيمة المصاب بها حاسد أو غاضب أو فاشل لا يقبل بنجاح غيره في مثل ميداني ، ولطالما نصحني من أهل الرأي السديد باغتنام الفُرص إن طرقت بابي في الوقت الآني ، فالحياء المبالغ فيه يُفسَّر بالضعف من لدن المستغلين جهد الآخرين بما قد يُحزنني ، حقاً أدركتُ أن الحاجة ليست عماد التصرّف للحصول على المراد الذي يناسبني ، وإنما توظيف القدرات الفكرية في المكان والزمان المناسبين أجدر لأخذ ما فوق تلك الحاجة يرفعني ، بالاجتهاد المبذول آخره بالمردود المادي يمكِّنني ، للتغلُّب على متطلبات العيش الكريم البعيد عن مَدّ اليَد لأيّ كان مهما كان يأتي زمان فيه يحتقرني ، وبخاصة في تلك الأجواء المسيطرة على المغرب الشرقي عامة والعاصمة "وجدة" على وجه الخصوص ، لم أُبْعِد خلالها ظني عن السلطة الإقليمية واهتمامها بشخصي لسببين ، ما أتحرّكُ في إطاره محسوبة خطواته لأمر مكشوف جلّه ، والأهم في الجزء الباقي المحتاج لاجتهاد مُعيَّن من طرفها ، أما الجانب الثاني ما أشَكِّلُهُ حولي من طاقات بشرية الغرض يسبق معرفة القصد لينتهي الفاعل بتحديد الأفاق والأبعاد على الطريقة الأمنية المغربية ، التي لا يُفوّتُ أصحابها الصغيرة منها قبل الكبيرة ، لتكون النتيجة على طاولة المسؤولين يترقّبون بعدها عن كثب نقلها عمليا على ارض الواقع . … طلب مني السيد مصطفى العزاوي بإعداد مسرحية لتقوم المندوبية الإقليمية للتعاون الوطني بإنتاجها احتفاء بمناسبة عيد العرش ، وعدته خيراً وسأكون في الموعد بعمل يستحق أن يتم عرضه في مثل المناسبة مضموناً وإخراجاً ، بعدما أكون قد انتهيتُ من مسرحية أخرى ألفتُها لتقوم فرقة المسرح البلدي بعرضها فوق خشبة "سينما باريس" في وجدة تحت عنوان " لن تحصدني لأني زرعتك" قام بإخراجها الأخ "بنيحيى العزاوي" ، لقيت نجاحاً ملحوظاَ فاق كل التوقعات . خاصة بما سلطته من أضواء كاشفة على سياسة الرئيس الجزائري الهواري بومدين المعادية في أكثر من مجال للمغرب ، وكان أول عمل مسرحي شهد المركب الثقافي الذي تطرقتُ للحديث عنه سابقا ، تدريبات مكثفة لانجازه من طرف فرقة خَصَّص لها ككل الجمعيات الثقافية والفنية المتواجدة في تلك المدينة أثناء تلك الفترة الزاخرة بالعطاء الجيد رغم قلة الامكانات ، إذ أحياناً ما كنتُ والأستاذ مصطفى الحجازي ندفع من جيبينا لاقتناء بعض الضروريات المكتبية ، لنؤدي ما تحملنا من أجله مسؤولية تلك المؤسسة لتقف على ركيزتي الانطلاق السليم والنجاح المهم . لذا تميزت هذه الفترة من حياتي داخل تلك الربوع بانجازات مهدت لي الحصول على متطلباتي المعاشية دون اللجوء للدولة المغربية لأسباب سأكون مضطراً لتسجيل ما أراه لائقاً يُزكي الوعي لدى الجيل الصاعد ليفهم مبكرًا كيف الأمور المشابهة تسير بين كواليس بعض الإدارات للأسف الشديد . (يتبع)