بقلم: أبو التوأم عبد الخالق الحمدوشي: ابن المدينة القديمة، ولدت في حومة الغريسة، ثم انتقلنا في بداية السبعينات إلى زنقة لاروسيا (قرب القنصلية الاسبانية) في حي له ثقافات و ديانات متنوعة (مسلمة، يهودية، مسيحية…). لعبت دار الشباب دورا هاما في حياتي، حيث أن هذه الأخيرة كانت تستفيد من مقرها آنذاك الجمعيات الجادة والهادفة. دار الشباب سابقا وبما أن مقرها كان جزءا من حينا (حومتنا) فقد كنا نقضي حيزا كبيرا من الوقت فيه، وهناك استفدت من جل الأنشطة التثقيفية والتربوية التي تقوم بها الجمعيات واذكر من بينها: جمعية "أميج" AMEJ (الجمعية المغربية لتربية الشبيبة)، و برئاسة الأستاذ السملالي محمد، عبد القادر النحال، مراد الجوهري، القطب نورالدي، العبادي عبد السلام، قيس مصطفى…، وجمعية الكشاف المغربي برئاسة الأستاذ البقالي عبد الله و أطر أخرى، وجمعية والمخيمات، وإطارات أخرى غابت عن ذهني أسمائها. وكانت كل الأنشطة وبرامج دار الشباب جد هادفة برئاسة الأستاذ عبد السلام خرخور، كما كانت تتوفر على عدة نوادي لألعاب تربي الملكة الذهنية كالشطرنج والمونوبولي…، وألعاب رياضية أخرى ككرة السلة وكرة الطاولة (من أبطالها آنذاك يوسف الجباري، مصطفى حمدون…). كما كانت دار الشباب تتوفر على مكتبة رائدة نعير منها الكتب، وتقوم بأنشطة أسبوعية وفق برنامج تربوي هادف. وفي يوم السبت، كنا نستمتع بالأغاني الملتزمة ومن بينها أغاني القضية الفلسطينية، كما كانوا يلقنوننا بعض الأناشيد الهادفة، و ما زلت أتذكر نشيد: فوق بساط الغاب… غنى الطير و غاب سيروا بنا نغني هناك… سيروا بنا نغني هناك ونخاطب الطيور و نخاطب الطيور ما أجمل الأيام… ما أعذب الألحان ما أجمل الأيام…. ما أعذب الألحان سيروا بنا نغني… هناك سيروا بنا نغني هناك ونخاطب الطيور و نخاطب الطيور و نشيد آخر: قال لي أبي أن حب الوطن أمانة كبيرة على طول الزمن… و نشيد آخر: عشنا هناك فوق الهضاب….عشنا هناك فوق الربى… جمعية حبيب….جمعية حبيبة هي مغربية…..تهتمّ بالشبيبة وفي يوم الأحد يكون موعد سباق المدارس الذي كان مناسبة للتثقيف وإغناء الذاكرة بأفكار ثقافية جديدة، بالإضافة إلى أنشطة تربوية ربت فينا الحس النقدي البعيد كل البعد عن الفكر الخرافي والظلامي، الذي كان منعدما آنذاك. إلى اليوم لازلت أتذكر اعتقال أستاذ مادة اللغة العربية أخزان محمد، الذي اعتقل سنة 1979 على خلفية الإضراب الذي دعت له الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في قطاع التعليم، هذا الحدث كان له أثر كبير علي آنذاك، ولم أفهم معناه الحقيقي، مما جعله يراكم عندي تساؤلات، لم ألقى إجاباتها إلا بعد مرور سنوات. ورغم طرد هذا الأستاذ، فإني أتذكر أنه كان يعطينا دروسا للدعم في بيته دون مقابل. جل الأساتذة الذين تربينا على أيديهم، كانوا أصحاب فكر متنوّر تقدمي في بعض الأحيان، سواء بالإعدادي أو الثانوي، وأيضا تتلمذنا على أيدي أجانب فلسطينيين وفرنسيين ورومانيين وأردنيين، كنا نطل معهم على ثقافات أخرى متنوعة ومتنورة في غياب تام للحاسوب، ووسائل التكنولوجيا الحديثة. شكلت انتفاضة 1984 قفزة نوعية في حياتي، فهي أولى المحطات النضالية التي شاركت فيها بعفوية وحماس كبير دون معرفة الأسباب الحقيقية لهذه الانتفاضة الشهيرة ب "انتفاضة كوميرا" (الخبز و الكرامة)، تمردنا على الأساتذة وإدارة مؤسسة محمد بن عبد الله (التيجيريا) وكسرنا زجاج النوافذ. ولن ننسى أن في تلك المرحلة – أي بداية الثمانينات- كانت فئة كبيرة من المثقفين (أساتذة، طلبة، تلاميذ) لعبت دورا أساسيا في تأطير الجماهير مساهمة بشكل كبير في دينامية النضال المجتمعي. وللتذكير فإن انتفاضة 1984 تعد من بين الانتفاضات التاريخية الكبرى التي عرفتها شوارع المغرب، بحيث وُوجهت بمجازر واعتقالات واختطافات واغتيالات، وهي أيضا الانتفاضة التي وصف الحسن الثاني على إترها سكان الشمال "بالأوباش العاطلين اللي عايشين بالسرقة والتهريب". بعد هذه الأحداث، سيتم تضييق الخناق على الأحزاب والجمعيات الجادة وهو ما تطرقنا له في إحدى الفقرات السابقة (المذكرة المشؤومة 164)، وستصبح بعض المقاهي أماكن آمنة للشباب من أجل تبادل الحديث والنقاش، بل أصبحت كذلك مقرات للتلاميذ والطلبة للتهييء للامتحانات، وذلك في غياب الهدوء في المنازل، بل حتى غياب الطاولات من أجل المراجعة، الطاولات كادت أن تكون منعدمة في المنازل، اللهم "الطيفور"ذو الثلاث أرجل، وكانت "الوصلة" "المايدة" هي أحسن مكتب للمطالعة إذا تمكنت من الحصول عليها قبل إخوتك. شكلت مقهى ليكسوس مكانا آمنا لي من أجل التهييء لامتحانات البكالوريا (كانت تعلن نتائجها في الجريدة الرسمية) وكانت باكالوريا 86/87 آخر سنة تصدر في الجريدة. كان التلاميذ يبيتون في المحطة من أجل أخذ الجريدة التي تأتي من العاصمة ومن خلالها يطلعون على النتائج. وأذكر أن الأستاذة كريستين (أستاذة اللغة الفرنسية، و فرنسية الجنسية) كانت تُشبِّه امتحانات البكالوريا بلعب مقابلة لكرة القدم، الاستعداد لها يكون على طول السنة من أجل اللياقة البدنية، فكذلك امتحانات البكالوريا كان يجب التهييء لها على طول السنة. وبالفعل فقد اتخذت من مقهى ليكسوس ملعبا للتهييء للمباراة. وفي تلك المقهى تعرفت على فخر الدين، الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل آنذاك (كان هو أيضا يتهيّأ لاجتياز امتحان الباكالوريا) تبادلنا أطراف الحديث، وأمام الضجيج الذي كان يحدثه بعض رواد المقهى، اقترح علي المراجعة معه في مقر الاتحاد المغربي للشغل الكائن آنذاك بشارع طارق بن زياد. بدى لي السيد فخر الدين إنسانا متمرّدا، ناقما و ساخطا على الوضع. ينتقد سياسة الدّولة باستمرار، و يحمّل مأساوية الوضعية للمسؤولين المحلّيين. كما حكى لي أنه يتوفّر على برنامج نضالي طموح، و أنه يتوفّر على مجموعة عمل لتنفيذ هذا البرنامج، و اقترح علي الاشتغال بإطار الشبيبة العاملة بعدما سلطني أدبيات هذا الإطار، و التي كانا أوراقا تقدّمّية بامتياز. قبلت هذا الاقتراح، و أصبحت كاتبا عاما للشبيبة برفقة عبد اللطيف الصحراوي، مصطفى الفيلالي و العربي الدّقاق و آخرون…