تعتبر الهندسة المدنية من الأركان الأساسية للهندسة الوطنية، بفضلها تمكنت بلادنا من متابعة مسيرة التحديث و العصرنة و تمكن المهندس المدني المغربي من رفع تحدي بناء المغرب الحديث. فمنذ فجر الاستقلال تمكن المهندس المغربي من تعويض الخصاص وتسيير المئات من الأوراش و المشاريع المتنوعة على امتداد التراب الوطني. فعبر السنوات تمكن المهندسون المختصون في الهندسة المدنية المتخرجون أساسا من «المدرسة المحمدية للمهندسين» بالرباط ( ابتداء من 1964 ) و«المدرسة الحسنية للأشغال العمومية» بالدار البيضاء ( ابتداء من 1974 ) ، بالإضافة إلى المهندسين المغاربة المتخرجين من المدارس الأوربية، من توفير الأطقم اللازمة لمتابعة الأوراش التنموية من تشييد للطرق و القناطر و الأنفاق و بناء للسدود والخزنات و إرساء أساسات البنية التحتية و الإشراف على بناء المدن بتجزئتها و عماراتها و منشئاتها و مساكنها المتنوعة. هذا التطور الحضاري و العمراني وهذه الأوراش المختلفة التي يشرف عليها المهندس المدني تضع على عاتقه مسؤوليات جسيمة على رأسها ضمان سلامة و أمان حياة المواطنين. فيما يلي محاولة لتسليط الضوء على دور المهندس المدني في مكاتب الدراسات التقنية و كذا ظروف الاشتغال و إشكالاتها، مع اقتراح بعض النقط الكفيلة بتطوير المهنة و الرقي بها. مهام المهندس المدني و أدواره: يمارس المهندس المدني دوره عموما من خلال مكاتب دراسات تقنية، وهي عبارة عن شركة "تجارية" يمكن أن تأخذ شكل شركة ذات مسؤولية محدودة أو شركة مجهولة الاسم أو شخصية ذاتية. و تتحدد مهام مكاتب الدراسات التقنية في ميدان البناء، بشكل أساسي، في إنجاز دراسة هيكل البناية استنادا إلى معطيات خاصيات التربة و ووفق المعايير التقنية الجاري بها العمل و خصوصا تلك المتعلقة بالمعايير المضادة للزلازل. كما يتولى المهندس إنجاز قياسات أولية لتحديد تكلفة مختلف أجزاء المشروع و إنجاز دفتر التوصيفات الخاصة و كذا الإشراف على إنجاز وتنفيذ المشروع، و التأشير على مراحل وضع الخرسانة المسلحة خلال مراحل الإنجاز. و في غياب هيئة مشرفة على القطاع، تجتهد بعض الجهات في وضع تصنيفات لهذه المكاتب، و يأتي على رأس هذه الجهات وزارة التجهيز و النقل التي تصنف المكاتب الدراسية حسب المؤهلات البشرية و المادية لهذه المكاتب، حيث تصنفها حسب طبيعة النشاط إلى 18 صنف، ك«الصنف د 1» بالنسبة للعمارات و «د 2» للتجزئات السكنية إلخ. الإشكال المرتبط بتعريف صفة المهندس المدني: هذا الإشكال مرتبط بالمنظومة القانونية التي تجاوزها الواقع و الممارسة، فالقانون «12-90» المنظم للقطاع لا ينص مطلقا على ما يعرف ب«مكاتب الدراسات التقنية» و يتحدث بالمقابل عن «المهندس المختص». أما ظهير 1947 (ج. ر. بتاريخ 3 شوال1368- 29 يوليوز1949 ( المحدد لصفة «مهندس» والصادر في الفترة الاستعمارية، فهو يتحدث بشكل عام عن صفة المهندس حيث ينص في فصله الأول على أنه: «لا يجوز لأحد أن يتحلى في المغرب بلقب مهندس إن لم يكن حائزا لإجازة مهندس رسمية تسلم بالموجب إليه إما في المغرب أو في فرنسا أو في مستعمراتها أو في البلاد المشمولة بانتدابها أو بحمايتها أو في البلاد الأجنبية ويكون على هذه الصفة الأخيرة قد سبق لدولتنا الشريفة أو للدولة الفرنسية الاعتراف له بها، ويكون اللقب يذكر برمته أو يشار إليه بالاختزالات المقررة رسميا». وبذلك تكون ممارسة المهنة الهندسية غير مضبوطة بشكل واضح و متكامل و هي موزعة بين نصوص مختلفة لوزارة التجهيز و وزارة الإسكان و الأمانة العامة للحكومة كل بمنطقه الخاص فتنص تارة على «مكتب الدراسات التقنية» و تارة على «المهندس المختص» و تارة أخرى على صفة «مهندس» فقط. المشاكل المرتبطة بشروط إنشاء مكاتب الدراسات التقنية: قد لا يصدق القارئ العادي البعيد عن ميدان البناء، أنه باستثناء مشاريع القطاع العام، أن إنجاز تصميم خرسانة لعمارة من خمسة عشر طابق، مثلا، في القطاع الخاص لا يخضع لأي مراقبة أو تحقق من صفة واضع التصميم، باعتبار أن إنشاء مكتب دراسات تقنية لا يشترط على مؤسسه أن يكون مهندسا مدنيا، إذ يبقي التخوف من المسؤولية التقنية هو الدافع الوحيد للاستعانة بالمهندس المدني المؤهل. وهنا يسجل غياب جهاز مشرف و متتبع لصفة من يمارس المهنة، فمن الناحية النظرية تشرف الأمانة العامة للحكومة على منح التراخيص بالسماح بحمل صفة المهندس، إلا أن لائحة المهندسين الحاملين لهذه الصفة المنشورة رسميا من طرف الأمانة العامة للحكومة لا تتجاوز 195 مهندسا فقط بينما يعد المهندسون المدنيون الممارسون بالآلاف. كما أن المعايير الموضوعة من طرف وزارة التجهيز لتصنيف مكاتب الدراسات تعتمد فقط على ملف يصف الإمكانيات البشرية في لحظة معينة ، دون إمكانية تتبع واقع الممارسة مما يفتح الباب أمام توظيفات وهمية للمهندسين للحصول على تصنيف معين و الظفر بمناقصة معينة، بعيدا عن منطق التأهيل السليم و الدائم أو الاستفادة الحقيقية من الطاقات الهندسية. كما أن هذا التصنيف لا يشترط صفة المهندس المدني بالنسبة للمالك أو المسير. و بذلك يلحظ أنه في المشاريع الخاصة، وفي مقدمتها تلك الصغرى يكفي التوفر على ختم يحمل صفة مكتب دراسة كشرط لمباشرة المهام، مما يفتح المجال أمام أشخاص لا تتوفر فيهم المؤهلات العلمية اللازمة و الذين يمارسون عملهم بكل اطمئنان خارج أي مراقبة سوى تلك التي يثيرها المهندسون المؤهلون أنفسهم. حيث تصل شكاياتهم حد رفع العديد من القضايا أمام المحاكم، كتلك المرفوعة حاليا من طرف مهندس مدني بمدينة سيدي قاسم ضد مكتب دراسات يوقع تصاميمه شخص لا تتوفر فيه المؤهلات اللازمة في ظل صمت "مثير" للمجلس البلدي و السلطات الوصية. الإشكال المرتبط بالمسؤولية داخل الورش : رغم أن السلامة هي من صميم مسؤوليات المهندس المدني و رغم أن العادة القانونية في حالة كارثة تجعله المسؤول المباشر و الأساسي، إلا أن ذلك لا ينعكس على المسؤوليات خلال الأشغال. فهناك خلط واضح بين المسؤولية المعمارية و المسؤولية التقنية، مما يعرض أمن و سلامة المواطنين للخطر. و كمثال على ذلك أنه في حالة وجود اختلاف في تقييم سلامة الورش بين المهندس المدني والمهندس المعماري فان رأي هذا الأخير هو الفاصل، رغم أن سلامة البناء و دعاماته هي من اختصاص المهندس المدني. كما أن «قانون التعمير 12- 90» الذي يقنن عملية التعمير و البناء لا يشترط الحصول على موافقة المهندس المدني لمنح رخصة السكن ( المادة 50 من الباب 3 من القانون السالف الذكر)،كما لا يلزم اللجوء إليه أصلا في بعض الحالات ( المادة 54 من الباب 3 من القانون نفسه). ومن المفارقات الأخرى أن الوكالة الحضارية لم تفرض إلا مؤخرا ضرورة إدلاء المنعش العقاري بشهادة تقر متابعة مهندس مختص لإنجاز الأعمال. غير أن الشهادة السالفة الذكر، تبقى مجرد مسألة شكلية لأن لا شيء يمنع المنعش من الاستعانة بغيره فور الحصول على الرخصة دون ضرورة توقيع محضر تسليم و إبراء الذمة من طرف المهندس الأول، على عكس الحالة مع المهندس المعماري. تبقى الإشارة إلى أن تصاميم الخرسانة لا توضع في أي مصلحة إدارية أو هيئة رقابية على عكس تصاميم المهندس المعماري الواجب وضعها لدى الوكالة الحضرية والجماعة الحضرية، مما يعد استخفافا واضحا بحياة المواطنين و سلامتهم البدنية. الإشكال المرتبط بتطوير المهنة و تنميتها بالإضافة إلى طبيعة القضايا المرتبطة بالترسانة القانونية و تلك المرتبطة بالممارسة داخل الورش، فهناك إشكالات مرتبطة بتطوير المهنة و تنميتها. و يأتي على رأس هذه الإشكالات صغر حجم مكاتب الدراسات بسبب التعويضات الهزيلة، حيث أن حجم أغلب مكاتب الدراسات لا يتجاوز ثلاث موظفين، مما يحد من قدرتها على التطور. كما أن هناك مشكل غياب محدد موضوعي و موحد لمنح الأتعاب، ففي القطاع الخاص أتعاب مكاتب الدراسات تمر من الضعف حتى عشرة أضعاف بالنسبة لنفس المشروع. مما يفتح باب المنافسة غير الشريفة و وولوج مهندسين مزيفين. كما أن نظام المناقصات العمومية الذي يلجأ إلى معيار الأقل تكلفة عوض الأفضل عرض يفتح الباب إلى تكسير غير مقبول لتكلفة العروض. بالإضافة إلى كل ذلك، هناك مشكل عدم حماية و دعم الهندسة الوطنية والسماح بتطويرها، حيث لا يوجد أي شرط حول ممارسة المهندسين المدنيين الأجانب لمهامهم داخل المغرب ، بخلاف المهندسين المعماريين حيث يشترط على نظرائهم الأجانب الدخول في شراكة مع المغاربة كشرط للممارسة داخل البلاد. من أجل تطوير مكاتب الدراسات التقنية إن المهندس المدني مطالب بالسهر على تصميم و تنفيذ كل ما يتعلق بالبناء و التشييد و هو دور كبير و أساسي يتطلب توفر الوسائل اللازمة للنهوض بهذه المهام، كما يتطلب إعادة الاعتبار إلى هذا الإطار الوطني و الإصغاء إلى مطالبه و تطلعاته و فتح نقاش جدي ومسؤول حول مختلف التحديات المطروحة. فتطوير دور مهام المهندس المدني يتطلب بداية وضع حد للنزيف الحالي في القطاع عن طريق اشتراط «شهادة مهندس الدولة» في «الهندسة المدنية» كشرط لفتح مكتب دراسات، كما يطلب مراجعة المنظومة القانونية بشكل عام و اعتماد معايير جديدة تسمح بالتمييز بين المسؤولية المعمارية و المسؤولية التقنية و كذا التدقيق في تعريف صفة المهندس المدني و مكتب الدراسات التقني. من ناحية أخرى، يجب إعادة النظر في نظام المناقصات العمومية التي تقود إلى تكسير فادح للتعويضات و بالتالي التأثير على الجودة و السلامة، كما يتعين وضع نموذج للعقدة بين المهندس المدني و صاحب المشروع بشكل يضمن التنصيص على الأدوار و الالتزامات الواضحة للطرفين. و فوق كل ذلك يبقى مطلب تشكيل هيئة وطنية للمهندسين المدخل المنطقي والأنجع لحل مجمل مشاكل المهندسين سواء تعلق الأمر بالمهندسين المدنيين خصوصا أو المهندسين بصفة عامة. مهندس الدولة و فاعل نقابي و جمعوي في الميدان الهندسي هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.