إن وقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً، الذي أُعلن عنه في 27 نوفمبر في لبنان، يثير الحيرة بسبب السرية التي أحاطت بالمفاوضات وغموض بنود الاتفاق. الأمر المؤكد هو أن جبهة الإسناد اللبنانيةلغزة التي أطلقها حزب الله في 8 أكتوبر 2023، تحولت إلى حرب مفتوحة، كما أكد الأمين العام الجديد للحزب نعيم قاسم.
كان الهدف الأوَّلي لحزبالله هو فتح جبهة في الشمال لتفريق القوات البرية الصهيونية وتجنب تمركزها في غزة. وقد نجح هذا التكتيك، حيث تم نقل نصف فرق جيش الاحتلال نحو الحدود اللبنانية. وفي الوقت نفسه، أدت أعمال المقاومة اللبنانية في شمال الجليل إلى تهجير نحو 100 ألف مستوطن من المستوطنات الحدودية إلى وسط البلاد ، مع ما نتج عن ذلك من فوضى اجتماعية وتكلفة مالية. والى غاية سبتمبر الماضي، كان حزب الله يرد بطريقة متناسبة على القصف العشوائي للطائرات الصهيونية. لكن بينما استهدفت هجمات الطيران القرويين والمدنيين اللبنانيين ودمرت المدارس والمستشفيات والمنازل وحتى المواقع التاريخية، استهدفت المقاومة اللبنانية المنشآت العسكرية ومصانع الأسلحة والرادارات ومراكز استخبارات الموساد وتجمعات الجنود الإسرائيليين. نتنياهو، الذي وقع في مستنقع غزة وفشلت حساباته في لبنان، (1) انطلق في مغامرة متهورة من خلال استفزاز إيران، من أجل إلزام الولاياتالمتحدة وبعض "الحلفاء" العرب بمواجهة مباشرة معه. لكن هذه السياسة فشلت حتى الآن في مواجهة إيران والسبب هو التفوق التكتيكي الإيراني. ثم أطلق نتنياهو بعد ذلك، وهو في مأزق تام، عملية إرهابية عمياء وغير مسبوقة، من خلال استهداف الاف الناس من مستخدمي أجهزة الاتصال التي لا تحتاج إلى شبكات هاتف – كالأطباء والممرضات وسيارات الأجرة والتجار والموظفين، وما إلى ذلك – عن طريق وضع متفجرات في هذه الأجهزة قبل تسويقها في لبنان. ففي الوقت الذي بدت فيه مفاوضات وقف إطلاق النار على وشك النجاح بشروط حزب الله، وفي وقت كان نتنياهو في الولاياتالمتحدة، تم رصد الموقع الدقيق الذي كان يتواجد فيه السيد حسن نصر الله في 27 سبتمبر وأُعطي الضوء الأخضر الأميركي لاستهدافه بقنابل قادرة على اختراق الخرسانة وتصل إلى عمق 60 مترا. فأصابت الهدف واستشهد السيد حسن نصرالله. وكانت اغتيالات أخرى لقادة سياسيين وعسكريين في المقاومة اللبنانية سبقت وتلت استشهاد السيد حسن نصر الله. مبتهجاً بهذه «الانتصارات»، حصل نتنياهو على الموافقة لاحتلال لبنان. لقد كانت لحظة "نشوة" حيث أعلن نتنياهو عن تشكيل "شرق أوسط جديد"، ستكون لبنان مرحلته الأولى. أراد أن يكرر ويكمل عمل شارون في لبنان، بتخليصه من المقاومة المسلحة وتنصيب رئيس جمهورية وحكومة مطيعين. وبحسب "استراتيجيين" أميركيين إسرائيليين، فإن احتلال لبنان سيكون امرا سهلا ولن يتطلب سوى بضعة أيام أو على الاقصى بضعة أسابيع، وذلك بعد عام من القصف الجوي المكثف، الذي خلف نحو 3800 قتيل في الجانب اللبناني، ودمر بحسب هؤلاء الاستراتيجيين ثلثي البنية التحتية العسكرية لحزب الله. ونتذكر أنه في عام 1982، استغرق جيش الاحتلال عشرة أيام فقط للوصول إلى أبواب بيروت. وبعد حصار بيروت الذي دام 100 يوم، نجح شارون في التفاوض على خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان ووضع بيدقاً له، الكتائبي بشير الجميل، في منصب الرئاسة. (2) وعلى الرغم من "الضمانات" الأميركية والفرنسية بحماية المدنيين بعد رحيل المقاومة الفلسطينية، فقد اجتاح جنود شارون وميليشيات الكتائب المخيمات الفلسطينية في صبرا وشاتيلا في بيروت وارتكبوا جرائم هناك لمدة 48 ساعة، وخلف الأبواب المغلقة ارتكبوا مذبحة رهيبة للأطفال والشيوخ والنساء والرجال العزل، تاركين مشهدًا مرعبًا لعدة آلاف من الجثث المشوهة والمعذبة قبل إعدامها.. لكن لبنان 1982 ليس لبنان 2024. كان لبنان في ذلك الوقت، بعد أن أضعفته سبع سنوات من الحرب الأهلية، منقسما ومجردا من وسائل الدفاع عن النفس. في خضم تلك الظروف الصعبة نشأ حزب الله عام 1982 بعد خروج مجاهدي المقاومة الفلسطينية من لبنان وكان العديد من مناضليه يقاتلون إلى جانب المقاومة الفلسطينية. ومع مرور الوقت أصبح حزب الله حزباً سياسياً رئيسياً، ذي اغلبية في البرلمان. وقام جناحه المسلح بتجنيد عشرات الآلاف من الشباب اللبنانيين المتمرسين في القتال والمكرسين للدفاع عن السيادة اللبنانية والقضية الفلسطينية. وهذا ما يفسر الفشل الذريع لحسابات نتنياهو في لبنان. إنه لم يستوعب التغيير الهائل الذي حصل في لبنان. لقد تحطم حلمه ب "شرق أوسط جديد" بسبب مقاومة حزب الله البطولية وأسلحته المتطورة والتضامن الكامل للشعب والمقاومة. ولم تتمكن قواته، بعد شهرين من القتال، من الوصول إلى عمق بضعة كيلومترات من الحدود دون أن تتمكن من البقاء هناك، بعد ان تكبدت مئات القتلى والجرحى وتدمير حوالي خمسين دبابة. وهذا ما يفسر تسرع نتنياهو للحصول على وقف إطلاق النار الذي كان يعارضه بشدة منذ أكتوبر 2023. فهو لم يستطع احتلال لبنان، ولم يستطع تدمير قدرات حزب الله العسكرية (3)، ولم يعطل قيادته رغم اغتيال قادته. كما أنه لم يكن قادرا على إعادة نحو مائة ألف مستوطن إلى مستعمراتهم، التي دمرت إلى حد كبير، والذين يرفضون العودة إليها ما لم يتم اتفاق سلام. بينما عاد اللبنانيون اعتباراً من 27 نوفمبر إلى الجنوب بمئات الآلاف وبدأوا بالفعل في إعادة بناء قراهم المدمرة وتعميرها. ولتبرير قبوله بوقف إطلاق النار، طرح نتنياهو ثلاثة أسباب: فهو يريد التركيز على إيران، وإعادة بناء قواته وإعادة تسليحها، ويريد تركيز قواته على غزة "لتحرير الرهائن". وهي ثلاثة اعترافات بالفشل: فسبق أن أرسلت إيران عينتين من قدراتها العسكرية من خلال مهاجمة منشآت عسكرية في "إسرائيل" بنجاح في أبريل وأكتوبر الماضيين. وحذرت من أن الرد القادم على العدوان الصهيوني سيكون مدمرا. ولم تتوقف إمدادات القوات الصهيونية بالسلاح منذ أكتوبر 2023 من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا. وعن طريق البحر، تقوم سفن حاويات شركة "ميركس" بنقل الأسلحة الثقيلة من الولاياتالمتحدة، عبر ميناء طنجة المتوسط إلى حيفا بمعدل حاملة في كل أسبوع. (كانت إسبانيا قد رفضت السماح باستخدام موانئها لإبادة سكان غزة). ما الذي يحتاجه السيد نتنياهو أيضاً لإعادة تسليح قواته؟ ألا يعني أنه لم يعد لديه جنود للقتال؟ المقاومة الفلسطينية في غزة لن تشعر بأثر وقف إطلاق النار مع لبنان، لأن فرق الجيش الصهيوني المحتشدة على الجبهة الشمالية ستبقى هناك ما دام وقف إطلاق النار مدته 60 يوما فقط. ولا يزال الجنود الصهاينة الذين يحتلون غزة يتعرضون يوميا لعمليات المقاومة وخسائر في الارواح والعتاد. لكن نتنياهو، الذي تلاحقه مذكرة الاعتقال الدولية، يستغل كل مناسبة لإطالة الحرب في غزة وهو يعلم أن السجن ينتظره بمجرد انتهاءها. وبعد 14 شهر، تستمر الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة ، وهدفها التطهير العرقي وإعادة استيطان القطاع بعد ضمه الى "اسرائيل". هذه هي المرحلة الثانية من تأسيس "الشرق الأوسط الجديد". لكن المقاومة البطولية لشعب غزة سوف تعرقل مخطط نتنياهو، كما هو الحال في لبنان. إن وصول ترامب الى الحكم لن ينقذ نتنياهو فلقد دعى الى انهاء الحرب قبل وصوله الى الرئاسة في 20 يناير المقبل. وهذا ما يفسر الصحوة المفاجئة في سوريا لجماعتي النصرة وداعش المدعومتان من "اسرائيل" والمحافظين الجدد في واشنطن. فزعزعة الاستقرار في سوريا قد تمكن نتانياهو من حصار حزب الله وقطع امداده بالسلاح. هذا ما يظنه. لكن هذه ورقة يائسة لان الوضع في سوريا لم يعد كما كان قبل عشرة سنة وروسيا وإيران له بالمرصاد. 1) استخدم حزب الله صواريخ ذكية وطائرات مسيرة ذات دقة مذهلة. (2) اغتيل بعد شهرين من تنصيبه. (3) إحدى الأدلة الصارخة على قوة حزب الله الضاربة كانت ليلة 26 إلى 27 نوفمبر قبل ساعات قليلة من وقف إطلاق النار، والتي تعرضت خلالها تل أبيب لقصف صاروخي كبير ومدمر لعدة ساعات.