طُلب مني مرة الكتابة عن الهوية نظريا، فاخترت الحديث عن تجربتي، ونُشرت تحت عنوان «لستُ أسيرَ هويتي». وهكذا كانت البداية: «سألت نفسي مرة: من أنا؟ فكان الجواب الذي انتهيت إليه: لست ما وجدتني عليه، لكن ما أريد أن أكونه؟ بين ما كنت، ومن أنا؟ وما أريد أن أكون؟ كان هذا هو سؤال هويتي الشخصية. مع مرور الزمن كانت تتشكل طبقات من الهويات، ويترسب بعضها تحت بعض، أو يطفو فوقها، أو يتجاور إلى جانبها، فهل من سبيل للاختيار؟». يكتب ابن سينا قد يعيش امرؤ سبعين عاما، فيكون وكأنه عاش بضعة أيام لأن كل أيامه يوم واحد متكرر، يرعى فيه غنمه». وقد يعيش آخر ثلاثين عاما، وحين تكون مليئة بالحركة والعطاء يكون، وكأنه عاش قرنا. هوية الشخص حياته المتحولة باطراد، وما حصل عليه من تجارب، وما عاناه من متاعب، واكتسبه من معارف، وما أنجزه من أعمال تفيد الآخرين. أما من ظل ثابتا في مكانه، فهويته الشخصية غير ذات قيمة، ووجوده عدم. تتحدد هوية «ليون الافريقي» في رائعة أمين معلوف الروائية على الشكل التالي: «أنا الحسن بن محمد الوزان. أنا جان ليون ميديسيس. خُتّنت على يد حجام. وعُمِّدت بيد البابا. يدعونني الآن الإفريقي. بيد أني لست من افريقيا، أو أوروبا، أو بلاد العرب. ويطلقون عليَّ أيضا: الغرناطي، والفاسي، والزياتي. لكني لم أصدر عن أي بلد، أو مدينة، أو قبيل. أنا ابن السبيل. وطني قافلة، وحياتي لا يمكن ترقبها من أي مفازة...». إن ما كتبه معلوف بحس سردي عميق يعبر عن كل إنسان، في مثل عظمة ليون الافريقي، أيا كان الزمان أو المكان. ألم يقل الشاعر الأيرلندي الكبير: «لا ترْتَبْ، بأن ليون الافريقي، ليون الرحالة، كان أيضا أنا». لا يمكن إلا أن يلتقي صاحب الهوية المتغيرة والمتحولة مع نظيره. الهوية اختيار ثقافي. يقول فلوبير: «أنا مدام بوفاري» وابن طفيل ليس أندلسيا ولا مغربيا، لكنه: «حي بن يقظان»! من لا هوية شخصية له، فله ادعاء «تدخيل كروموسومته في الشريط» البالي. عاش ليون الافريقي في أربعة فضاءات، سجلها معلوف من خلال أربعة كتب: غرناطة، وفاس، والقاهرة، وروما. فضاءان من شمال المتوسط، وآخران من جنوبه، وكل منها مختلف عن غيره لغة ودينا وثقافة. وفي كل فضاء اكتسب هوية، ولغة، وثقافة. فإذا هو من كل الفضاءات، وليس من أي منها. إن شخصيته الثقافية تتعالى على كل الأمكنة والأزمنة التي ستتعرف على ما أنجزه، وقد خلد بها شخصيته الثقافية. ترجم وصفه لافريقيا إلى كل اللغات لأنه قدم في زمانه معرفة جديدة. يمكننا تحديد الهويات المختلفة والمتغيرة التي تلصق به في هوية واحدة هي: ليون الافريقي الرحالة. وهي الهوية التي تجمعه بغيره من الرحالين، وبمنجزه الثقافي يختلف عنهم في الوقت نفسه، وعن غيره من الشخصيات التي شاركته مثل حياته، ولم ترقَ إليه. إن مثله مثل ابن بطوطة الذي جاب جغرافية العالم، ووصل إلى الصين. عندما نذكر ابن بطوطة لا نقف كثيرا على الفضاء الذي خرج منه: «الطنجي» فطنجة لم تقدم له سوى قبر مهجور. أما إنجازه الثقافي فقد جعله مثقفا إنسانيا، يتعدى حضورَ جغرافيا خرج منها لأن ما يحدد هوية شخصيته الثقافية ليس ميلاده في طنجة، لكن تجربته وحياته المتحولة التي عاشت مع أقوام متعددين، ومع ثقافات مختلفة، وخلدت في كتاب. لما كتب معلوف عن «ليون» الذي صار اسمَه العالمي، لم يره متعدد الهويات فقط، لكن جعله يحسم هويته التي اختارها، رغم كل الهويات التي عُرِف بها، أو تفرَض عليه، الآن، مع اكتشاف الجينات مؤخرا: «قد كنتَ في رومة: «ابن الافريقي» وسوف تكون في إفريقية: «ابن الرومي». وأينما تكون فسيرغب بعضهم في التنقيب في جلدك وصلواتك. فاحذر أن تدغدغ غريزتهم يا بنيّ، وحاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور! فمسلماً كنت أو يهودياً أو نصرانياً عليهم أن يرتضوك كما أنت، أو أن يفقدوك. وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس، فقل لنفسك: «أرض الله واسعة، ورحبة هي يداه وقلبه». ولا تتردد قطّ في الابتعاد إلى ما وراء البحار، إلى ما وراء الأوطان والمعتقدات». من منكم اختار أبويه، وأسلافه؟ من اختارهم فليتفاخر بهم. أما غيره فهويته الشخصية الثقافية يصنعها باختياره، وهي التي تحدد من يكون. ولدتُ في بيئة حملتها معي لأطير بها في أجواء هويات ثقافية إنسانية متعددة ومتناقضة في الزمان والمكان. وهي متحولة باستمرار. لكني أحس حين أنام أن هويتي تتعطل وتتلاشى. فلا أعرف من أنا إذ لا فرق بيني وبين أي متشرد ينام في زاوية قرب خربة ما. وحين أستيقظ أسترجع هويتي، وأتساءل من أنا اليوم؟ وماذا عليَّ أن أفعل لأكون إنسانا، تتجدد هويته أبدا، لأني لا أبتغيها تكرارا لأحد، أو لغدي أن يكون نسخة من يومي. من لا تتجدد شخصيته، يكفيه أن يبقى أسير طفوليته الثابتة. إن من لا هوية شخصية ثقافية له ليست له سوى صفحة واحدة في دفتر حالة مدنية ما، تؤكد أن له «شهادة حياة» وعندما يموت يشطب عليه في الصفحة نفسها، فيتلاشى نهائيا مثل أي حيٍّ كان، وكأنه لم يكن.