رفض كل دساتير المملكة منذ الاستقلال واعتبرها ممنوحة – وذات إسقاطات فوقية – تُكرس ملكية مطلقة ومركزية، بما فيها دستور 2011، زد على ذلك رفضه المطلق لبروتوكول تقبيل أيدي الملوك. حتى عُرف عنه في أبجديات السياسة المغربية بأنه "معارض الملوك الثلاثة". وسط كدح وبداوة الفلاحين نشأ "حُرمت من حنان الأم وأنا في سن الطفولة، فقد توفيت والدتي وعمري لم يتجاوز السادسة، وهكذا نشأت يتيما بالرغم من أن والدي تزوج بعدها بوقت قصير، ما تحتفظ به ذاكرتي عن هذه المرحلة هو أن زوجة والدي الجديدة، أدخلت إلى بيتنا المشبع بتقاليد بيئة الفلاحين نمط حياة مختلف، وعوائد أخرى لا عهد لنا بها نظرا لأنها كانت سيدة حضرية تنحدر من المدينة. فبلمسة واحدة من زوجة والدي هذه تبدلت كثير من عاداتنا البيتية في الأكل والتربية والسلوك". هكذا يصف أيت إيدر مرحلة طفولته بين طيات مذكراته التي تحمل عنوان "هكذا تكلم محمد بنسعيد". فتح محمد بنسعيد آيت إيدر عينيه سنة 1925، وسط بداوة قرية "تين منصور" التابعة إدارياً لإقليم "اشتوكة آيت باها"، إذ توفيت والدته وعمره لا يربو عن السادسة وكانت لزوجة أبيه القادمة من ترف المدينة، لمستها على الأسرة المشبعة بتقاليد الفلاحين، كما أشار لذلك في مذكراته. وعن أيام طفولته يقول "كنت، وأنا أكبر الأبناء، قد حفظت ستين حزبا بأكثر من قراءة. لم يكن عمري يتجاوز الرابعة حين التحقت بالمسيد (الكتّاب) الكائن بقريتنا. وقد تضايقت من الفراغ الذي بدأت أشعر به فور انتهائي من مهمة حفظ القرآن كاملا وتعلم الكتابة بالحروف العربية. وبضغط من هذا الفراغ، وافقني الوالد على الانتقال إلى مدرسة تدرس العلوم العربية". لم يكن عمر الراحل يتجاوز الرابعة حين التحق بالكتاتيب القرانية الكائنة بقريته، ويقول في ثنايا مذكراته "حفظت القرآن، وتمكنت من إخراج 13 سلكة من ستين حزبا، استظهارا واحدا بثلاث قراءات منها قراءة المكي". ويضيف أيضاً "تمكنت من مغادرة القرية في بداية الأربعينات متوجها إلى مدرسة قريبة شيئا ما. قضيت فيها حوالي سنتين.. ثم انتقلت إلى مدرسة أخرى تبعد كثيرا عن اشتوكة وتقرب من حدود منطقة آيت باعمران... كان الوصول إليها يتطلب مني ركوب سيارة نقل من تينمنصور حتى تزنيت، ثم أقطع المسافة الباقية راجلا.. وجدت أن الدراسة تٌلقن بشكل تقليدي، والدروس تترجم كلها إلى اللغة الأمازيغية، وكنت أجد صعوبات في إتقان النطق باللغة العربية، إلى أن انتقلت إلى مراكش لمتابعة دراستي في مدرسة بن يوسف". حفظ القرآن كله وهو طفلاً منتقلاً بين عدد من مدارس سوس العتيقة حيث التقى بالعلامة السوسي الفقيه محمد المختار السوسي، إلا أن استقر به المقام تلميذا في مدرسة "ابن يوسف" بمراكش، وهناك كان المنعطف. مسار حافل في مقاومة "مغرب فرنسا واسبانيا" انتقل بنسعيد إلى مراكش لمتابعة مشواره التعليمي بمدرسة "ابن يوسف" وانفتحت عيناه على الفعل السياسي رفقة عبد الله إبراهيم وعبد القادر حسن، والمهدي بنبركة و محمد الفقيه البصري وعلال الفاسي والأديب محمد الحبيب الفرقاني. كما شارك في قيادة فرق جيش التحرير المغربي وتكوين خلايا المقاومة السرية رفقة قيادات أخرى كعمر المسفيوي ومحمد باهي وغيرهم … . تواجده بمراكش فتح عقل الرجل على ما يعيشه مغرب الاستعمار "مغرب فرنسا واسبانيا"، لأن نشئته كانت في "مغرب منسي" منطقة معزولة عن التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عرفها المغرب في عهد الحماية، ولم يكتشفها إلا بعد انتقاله إلى مراكش واحتكاكه المباشر مع عميل فرنسا الحديدي آنذاك الباشا "التهامي الكلاوي" وعملائه في الجهاز المخزني، حيث أبلى البلاء الحسن بصرامة ثورية وزهد صافي ونزاهة أخلاقية في مقاومته وهو طالب، وهناك آمن بالعمل الوطني الذي شكل المعالم الكبرى في دربه السياسي والنضالي. ألهمته عملية "كريان سنطرال" سنة 1947، ككل المغاربة، ثم شراسة بطل الأطلس المتوسط "أحمد الحنصالي" في مقاومة الإستعمار، بداية الخمسينيات كما يقول في مذكراته. التحق بخلايا حزب الاستقلال، ومن خلاله وعبره انخرط في خلايا المقاومة وجيش التحرير. التحاقه بالحزب الأم أنذاك كان بسبب مجريات نكبة فلسطين 1948 ومتابعة أخبارها عبر قصاصات جريدة "العلم" "لسان حزب الاستقلال"، كما عبر الراحل عن ذلك في برنامج "شاهد على العصر". حين التحق بالشبيبة الاستقلالية عام 1948 تلقى تكوينا سياسيا فكريا جديدا، إما عبر المؤسسات الحزبية الموازية أو من خلال الكتب والمنشورات والأنشطة الثقافية التي كانت تقوم بها العديد من أطر الحزب بمختلف تلويناتها الوطنية والسياسية والدينية والثقافية، ومن أهم الذين تركوا تأثيرا ايجابيا عنده وغيروا مساره نحو وجهة الفكر التقدمي تاركاً خلفه "الخط المحافط" هو عبد الله إبراهيم، الذي لعب دورا هاما ومؤثرا في صفوف شباب حزب الاستقلال في التوجيه والتأطير والتكوين السياسي، وفي نشر أفكار تقدمية داخل الحزب، وزاد من هذه الجرعة الثورية احتكاكه بالمهدي بنبركة الذي كان يعتبر في نظر شباب الحزب نموذجا للمثقف الثوري الأممي التواق للتحرر من الاستعمار ومن الامبريالية. شارك بنسعيد، وأطر وساهم، منذ انخراطه في العمل السياسي، في إشعال نار الاحتجاجات والإضرابات مما نتج عنه سلسلة من الاعتقالات في صفوف كوادر الحزب وشبيبته ليعتقل ايت ايدر هو الآخر ، ويٌنفى إلى قريته السوسية في مارس 1952، وفي سنة 1953 سافر الى الرباط لمعاودة الاتصال بالقيادة المؤقتة لحزب الاستقلال فاختار طريق المقاومة والكفاح المسلح بعد أن أحس بفشل -أو إفشال- العمل السياسي في تحقيق غاياته. وفي ابريل 1954 انتقل إلى سيدي إيفني بايت بعمران ومعه عناصر من الحركة والمقاومة فخلقوا قاعدة خلفية لمنظمة السرية استطاعوا بواسطتها خلق شبكة اتصال بين المقاومة المسلحة هناك وامتداداتها في الوسط والشمال (الدارالبيضاء – مراكش...). وفي أواخر سنة 1955 انتقل إلى الشمال لمعالجة تصدع القيادة المركزية لجيش التحرير والتي كانت تتشكل أنذاك من عبد الكريم الخطيب والغالي العراقي وصفي الدين حسن وسعيد بونعيلات وحسين برادة وكل المشكلين للمجلس الوطني للمقاومة المؤلف من 27 عضوا منهم الفقيه محمد البصري وعبد الرحمان اليوسفي وعبد اللطيف بنجلون. وفي ظل تلك الظروف الصعبة والمشتعلة اضطر محمد بنسعيد إلى الالتحاق بجيش التحرير بالجنوب، كما هو وارد في كتاب "صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي"، وهناك شارك في التخطيط لعمليات فدائية ضد الاستعمار الفرنسي ومنها معركة 14 فبراير 1957 قرب "جبل رغيوة ببير موغرين"، حين فاجأ جيش التحرير كتائب من الجيش الفرنسي العائد من تندوف وتمكن من قتل ما يقارب 150 جنديا فرنسيا.. هذه العملية شكلت تحولا في العلاقة مع المستعمر الاسباني وأثارت حفيظتهم ودفعتهم إلى تغيير سياستهم تجاه جيش التحرير لكن هذا الأخير واصل نضاله المسلح ضد المستعمر الفرنسي والاسباني في معارك "سيدي افني – تيوغزا – اصبويا..." وغيرها من العمليات الفدائية وأهمها "معركة ايكوفيون" التي تحالف فيها الإستعمارين الإسباني والفرنسي للقضاء على جيش التحرير. وحصل أن نال المغرب استقلاله، وحدث أن اتسعت الهوة بين قيادة جيش التحرير وما تبقى من فلول اليسار من جهة ومن يجلس في سدة الحكم من جهة أخرى خصوصاً ولي العهد آنذاك الحسن ابن محمد الخامس، الذي تولى العرش بعد وفاة والده في 26 فبراير 1961، فبينما طالب بنسعيد ورفاقه داخل قيادة جيش التحرير بعدم حل أنوية جيش التحرير كان الملك الحسن الثاني وجنرالاته، وأغلبهم ممن خدموا في صفوف الجيش الفرنسي، يرون في هذا الجيش تهديدا لهم ولمصالحهم. اضطربت العلاقات بين المقاومين والجالس الجديد على العرش، وبدأت التصفيات والاعتقالات داخل صفوف المقاومة التي تصدرت لوقف الخطر الجديد الذي كان يحول دون استكمال استقلال المغرب سواء على مستوى سيادته أو أراضيه التي كانت ما زالت خاضعة للاستعمارين الفرنسي والإسباني في الشمال والجنوب والشرق. وتحت ضربات القمع المخزني اضطر بنسعيد ايت ايدر ورفاقه إلى الخروج هارباً إلى الجزائر في 8 دجنبر 1962، وبقي في الجزائر إلى حدود مارس 1963. وصدر في حقه أكثر من حكم في أكثر من قضية بسبب التزامه المبدئي والأخلاقي من ضمنها الحكم عليه بالإعدام غيابياً في ما عرف ب "مؤامرة يوليوز 1963″، لكن مع ذلك استمر بالاتصال والتفاعل مع الأحداث السياسية التي عرفتها الساحة السياسية المغربية المشتعلة في تلم المرحلة العصيبة من تاريخ المغرب، وخصوص أحداث 23 مارس 1965، واغتيال الشهيد المهدي بنبركة يوم 29 أكتوبر من نفس السنة. وكان من تداعيات ذلك إطلاق حركة قومية يسارية عرفت باسم "حركة 23 مارس" في أواخر الستينات من القرن الماضي. حيث نشط إعلاميا في منابر عربية صادرة من باريس ومن عواصم أخرى سواء في القاهرة أو بيروت أو بغداد ودمشق وطرابلس. ليصدر في السبعينات منبرا إعلاميا من فرنسا يحمل اسم الحركة التي أسسها "23 مارس". وظل يمارس عمله السياسي في المنفى معارضا لنظام الحسن الثاني، حتى صدور عفو عنه من الملك الراحل الحسن الثاني، أملته تطورات قضية الصحراء التي اتخذ بنسعيد موقفا مؤيدا لموقف القصر المطالب باسترجاعها بداية سبعينات القرن الماضي، فكانت عودته إلى المغرب سنة 1981 ، معلناً عن عودته للعمل السياسي والحزبي من داخل المغرب، فأسس "منظمة العمل الديمقراطي الشعبي" التي أصبحت حزبا سياسيا معترف به تصدر جريدة ناطقة بإسمها هي جريدة "أنوال". رجل سياسة شجاع يحترمه الجميع كان بنسعيد، أو "الشتوكي"، كما كان يلقبه رفاق دربه، رجل سياسة يحظى بتقدير واحترام من خصومه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ساعدته في ذلك خلفيته الثقافية المتعددة والمتنوعة، التي تمتح مرجعيتها من أرضية ثقافية سلفية تلقاها في "ابن يوسف" بمراكش، ومن ممارسة اشتراكية فتية غذّتها محطات كبرى "انتفاضة 23 مارس في الدارالبيضاء"، ومن مشارب قومية ألهمتها إياه "الثورة الفلسطينية"، ومن أممية كوينة اكتسبها بحكم معاصرتاه وإطلاعه واحتكاكه في منفاه برموز "الثورة الفيتنامية والثورة الصينية بقيادة ماو"، لينسجم مع جيل جديد من رفاقه الشباب اليساريين القوميين في قيادة "منظمة 23 مارس"، التي انتقلت بعد حوالي عقد من الزمن – بعد مراجعة نقدية شاملة وجريئة- من العمل السري إلى ضفة العلنية والعمل من داخل المؤسسات من خلال حزبهم "مظمة العمل الديمقراطي الشعبي" التي رأت النور مطلع الثمانينيات من القرن الماضي ، عندما أخذت قضايا حقوق الإنسان أهمية كبرى، فكانت بمثابة امتداد لمنظمة "23 مارس". قامت المنظمة الجديدة على أرضية بناء ثقافة حقوقية ودور طلائعي للنخب الثقافية في النضال الديموقراطي من داخل المجتمع المدني واعتمادا على قواه الحية، وتولى بنسعيد، بتزكية من رفاقه، مهمة أمينها العام. وباسمها انتخب نائباً في البرلمان عن إقليممسقط رأسه "شتوكة أيت باها" وقد ظل يمثلها هناك ل23 عام، حيث كان يعتبر صوت من لا صوت لهم داخل برلمان الحسن الثاني، عبر مداخلاته تتسم بالجرأة والشجاعة ومناقشة "قضايا الطابوهات". وسنة 1992 ساهم في تأسيس "الكتلة الديمقراطية" كإطار يمكن من خلاله بلورة كتلة تاريخية تجمع كل أصحاب المصلحة في التغيير داخل أقطاب الحركة الوطنية بمعية (عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله إبراهيم، محمد بوستة وعلي يعتة)، لكن الطرق سوف تتفرق بهم عندما طرح الملك تعديلا ثالثا رابعا على دستوره الممنوح، وسماه "دستور 1996″، تبنى حزب بنسعيد موقفاً مخالفاً لبقية "أحزاب الكتلة الديموقراطية" ، عندما دعا إلى رفضه والتصويت ضده، فكان ذلك سببا في تصدع "الكتلة الديموقراطية" وبسببه عاشت "منظمة العمل" محنة حقيقية داخلية أدت إلى انشقاق وتشظي داخلها، بدعم من السلطة التي لم يعجبها موقف بنسعيد. لكن الرجل بقي متمسكا بموقفه ومبادئه لأجل وضع دستور عصري ديموقراطي يقر مبدأ السيادة للأمة وإقامة مجتمع جديد قوامه الديموقراطية والعدالة الاجتماعية. ورغم التهميش الذي تعرض له من طرف السلطة، عقابا على مواقفه الرافضة لإصلاحاتها الشكلية، واصل الرجل جاهداً عمله في توحيد صوت اليسار المبحوح سنة 2002 بتأسيس حزب "اليسار الاشتراكي الموحد"، وفيه تخلى عن منصب الأمين العام واكتفى بموقع الرئيس الشرفي، ثم ساهم في تأسيس "الاشتراكي الموحد" 2007، وتابع تلك الصيرورة من خلال ضخ الدعم السياسي في تأسيس "فيدرالية اليسار الديموقراطي". مسيرته السياسية تميزت بالشراسة في المعارضة وتسليط الضوء على القضايا التي تعتبر ضمن الطابوهات، فكان أول سياسي مغربي يطرح قضية "معتقل تازمامارت" السري في قبة البرلمان. برغم من محاولات صدّه عن إثارة الموضوع، حيث بعث الملك الراحل الحسن الثاني بإدريس البصري ليبلغه رسالة تقول : "لا تطرح موضوع المعتقلين السياسيين بالبرلمان!"، لكن التاريخ سيسجل اسم آيت يدر كالمبادر الأول إلى طرح عدد من الملفات المسكوت عنها تحت قبه البرلمان، كما فعل حين تجرأ على طرح سؤال عن "معتقل تزمامارت" وباقي المعتقلات السرية، وعن ضرورة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين من تيارات اليسار الراديكالي. في مذكرات التي أصدرها عام 2018، بعنوان "هكذا تكلم محمد بنسعيد"، يقول عن تجربته الطويلة في البرلمان: "اكتشفت أن الممارسة البرلمانية لم تتطور إلى ما هو أفضل، بل حصل فيها تراجع كبير منذ أن انتقلت المعارضة التقدمية إلى الحكم... التحاقها بالسلطة إثر مرحلة ما سمي "التناوب التوافقي" ترك فراغا كبيرا..."، وتابع: "اكتملت صورة الانهيار بشاعة وسريالية عندما لجأت أحزاب الإدارة، التي صنعها المخزن لتمييع الحياة السياسية، إلى تأدية دور المعارضة، بدون رؤية ولا قناعة، بل بمنطق الاملاءات والتيليكوماند". وحتى آخر رمق من حياته ظل بنسعيد، الذي ابتعد عن الممارسة السياسية اليومية، مرجعا سياسيا وأخلاقيا لرفاقه في اليسار، وصوت ضمير النزاهة والاستقامة داخل مجتمع السياسية، ورمزا للتواضع والتضحية والصمود والمقاومة رافضا للظلم ومساندا لمطالب الحرية والعدالة الاجتماعية، وزاهدا في السطة والمال والجاه حتى استحق عن جدارة لقب "راهب اليسار المغربي".