بعد مرور سنة عن اندلاع الصراع الاستراتيجي الذي تكثفه الحرب الروسية الأوكرانية، وتمادي الغرب الأطلسي في ضخ المزيد من الدعم المالي والعسكري لتغذية هذا الصراع وإطالة أمد هذه الحرب، من أجل استنزاف ولم لا دحر روسيا كمقدمة للاستئثار بالصين التي تعد التحدي الأكبر في أجندة ميثاق الأمن القومي للولايات الأمريكيةالمتحدة ودول أخرى تقع ضمن دائرة نفوذها سواء في أوروبا أو 0سيا، كما كشفت عنها العقيدة الدفاعية الجديدة لليابان. إن الغرب الأطلسي بتماديه في تأجيج هذا الصراع تحت ذريعة الدفاع عن قواعد النظام العالمي المكرس للهيمنة الأمريكية، يكون قد كشف عن نواياه التي تسقط من حساباته مصالح أوكرانيا كشعب ودولة، خاصة مع كل ما أفرزه هذا النزاع من نتائج عاكست كل التكهنات الغربية في إلحاق الهزيمة بروسيا، إذ ظلت صامدة في وجه العقوبات الاقتصادية والمالية الغربية، وحققت إنتعاشا إقتصاديا بالتوازي مع التقدم الميداني في منطقة الدونباس. إن طول أمد هذا الصراع بما أفرزه من معطيات ميدانية وتمادي الغرب في جعل الأراضي الاوكرانبة ساحة لتصفبة حسابات استراتيجية مع روسيا يضع مصير أوكرانيا أمام إحتمالين : – الأول زوال أوكرانيا ككيان سياسي من جغرافية العالم، إذا أخذنا بعين الاعتبار تطورات الوضع الحالي وإعلان القيادات الروسية،ىاكثر من مرة، أن أي دعم بالصواريخ البعيدة المدى للجيش الأوكراني، سيقابله بالضرورة تقدم روسي في العمق الأوكراني لحماية الأراضي المحررة التي تعتبرها روسيا ضمن أراضيها الطتاريخية، وكذا تصاعد المطالب البولندية المتمثلة في أحقيتها التاريخية في المنطقة الواقعة إلى غرب أوكرانيا. –الثاني تقسيم أوكرانيا إلى شطرين شرقي خاضع للسيادة الروسية وغربي تابع لأوروبا بضمانات أمنية تحدد بنودها أطراف الصراع الدولي. إن الوقوف عند محصلة هذا الصراع الاستراتيجي على الجغرافية الأوكرانية بعد مرور سنة من اندلاعه، يدفعنا حتما إلى طرح السيناريو المحتمل لطبيعة الحل السياسي للحرب الروسية الأوكرانية. إن تداعيات هذا الصراع على الأراضي الأوكرانية ومخاطر انزلاقه إلى حرب كونية شاملة، إذا ما اخذنا بعين الاعتبار المعطيات الميدانية وسخونة الوضع الأمني في أكثر من جبهة، خاصة في منطقة جنوب شرق 0سيا التي لا يمكن فصلها عن الجبهة الأوكرانية، وهي التي دفعت بالصين للدخول لأول مرة على خط التسوية السلمية بإعلانها عن مبادرة شاملة لحل هذا الصراع الاستراتيجي رغم أن هذه الأخيرة اعتمدت دوما دبلوماسية المساكنة مع الغرب الأطلسي، وتجنب الاصطدام المباشر، دون أن تفرط بعلاقاتها الاستراتيجية مع موسكو. لكن إن كانت الصين مدركة مسبقا لرفض الغرب الأطلسي لمبادرتها، فما هي الأسباب المتحكمة في طرحها ؟ وكيف لنا أن نستشرف مخارج الحلول لهذا الصراع الاستراتيجي في ظل إصرار أمريكا على موقفها القاضي بالحفاظ على النظام العالمي بصيغته التقليدية ؟. إن المدخل الأساسي المقاربة هذه الأسئلة يمر بالضرورة عبر إلقاء الضوء على المفاهيم المحددة لقواعد النظام الدولي، كما تعرفه إنتلجينسيا الغرب الأطلسي، وإلى أي حد تتماهى هذه القواعد مع المبادىء المؤسسة لميثاق الأممالمتحدة الذي يجب أن يشكل روح أي اجتهاد في القانون الدولي، وبالتالي هل ترقى هذه القواعد المكرسة لهيمنة الغرب الاطلسي إلى مصاف القوانين التي تحترم الإرادة الدولية كما جاءت في الميثاق الأممي، أم أن هذه القواعد هي بمثابة سلوكات فرضتها دولة معينة أو حتى تكتل من الدول في ظل ظروف تاريخية وجيوسياسية تحولت بمقتضاها إلى قواعد لضبط السلوك الدولي حتى إن كانت في تعارض تام مع روح المواثيق الدولية التي تستنبط روحها من ميثاق الأممالمتحدة الذي ينص في ديباجته على ضرورة احترام حقوق الإنسان وسيادة الدول ووحدة أراضيها، وكذا حق الشعوب في الكرامة والتقدم والنمو. صحيح أن ميثاق الأممالمتحدة يتضمن فصلا زجريا كاملا لضبط السلوك الدولي، يخص الدول التي تهدد الأمن والسلم الدوليين، كما ورد في المواد 41 و 42 التي تتيح إمكانية التدخل الأممي سواء عبر الطرق الناعمة كالعقوبات المالية والاقتصادية والمقاطعة الدبلوماسية أو عبر استعمال القوة لكن شريطة أن تكون بتوافق أعضاء مجلس الأمن. كما أن اللجوء إلى هذا الفصل لا يتم إلا بعد استنفاذ جميع الوسائل الدبلوماسية لحمل الدولة المعنية على تراجعها عن كل ما يمكن أن يشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين كما ورد في المادة 40 من هذا الفصل. أمام هذه المبادىء المؤسسة للميثاق الأممي، واستحضارا لما يشهده العالم من تدخلات مباشرة وغير مباشرة من طرف أمريكا والغرب الأطلسي في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء في الأممالمتحدة، وحرمان شعوب دول الجنوب من حقها في التنمية والكرامة، عبر ما تسنه من قوانين عقابية تطال كل مجالات الحياة الإنسانية وذلك من خارج الهيئات والمؤسسات الأممية، يكون لزاما علينا استعراض بعض التدخلات الأمريكية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة التي تبوأت فيها أمريكا الزعامة الدولية، أي بعد سنة 1991، والتي فاقت 100 تدخل شمل انقلابات و اغتيالات لقيادات سياسية وعقوبات اقتصادية ومالية أو حتى تدخلات مباشرة بالقوة العسكرية، كما حدث في العراق وليبيا وسوريا واليمن وأفغانستان ويوغوسلافيا و جورجيا، وكذا في دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا. إن الفهم الأمريكي لمسألة احترام قواعد السلوك الدولي إذن لا يخرج عن سياق الحفاظ على هيمنتها على العالم بما يتماشى مع مصالحها، حتى وإن كان متنافيا مع المبادئ المؤسسة لميثاق الأممالمتحدة وللقانون الدولي، وبالتالي فلا غرابة أن تعبر عن استماتتها في تأجيج الحرب الروسية الأوكرانية من اجل الحفاظ مهما كلف الأمر على النظام العالمي كما تتصوره الإنتلجينسيا الغربية والنخب السياسية الأمريكية التي ترعرعت في أحضان الأحادية القطبية وافتقدت القدرة على استيعاب التحولات التي تشهدها موازين القوى العالمية التي أفرزت قوى عالمية جديدة تنادي بالاحتكام إلى القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة في ضبط العلاقات الدولية. إن هذا الاختلاف في الرؤيا بين مفهوم النظام العالمي الذي يتم إقراره من خارج الهي0ت الأممية وبين مفهوم النظام العالمي الجديد الذي تطالب به القوى العالمية الجديدة، والذي يحتكم للقانون الدولي ولروح الميثاق الأممي القاضي باحترام سيادة الدول وحق الشعوب في الكرامة والتنمية، هو ما يفسر استحالة الحل السلمي في أوكرانيا حاليا، كما يفسر ما يشهده العالم من انقسام حاد، أفقد أمريكا ذاك الإجماع الدولي الذي كانت تتمتع به سابقا، كما اتضح جليا في العديد من منتديات المنظمات الدولية كان 0خرها مؤتمر العشرين الذي انعقد مؤخرا في الهند والذي عجزت من خلاله أمريكا وحلفائها الغربيين على تمرير موقف الإدانة لروسيا. إن هذا الصراع الاستراتيجي على الاراضي الأوكرانية هو إذن بمثابة صراع إرادات بين قوى تنزع إلى الماضي بكل طغيانه ومآسيه والمطبوع بالهيمنة الأمريكية على العالم، وبين تلك التي تنزع إلى المستقبل في إطار نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب قائم على احترام القانون الدولي وحق الدول في اختيار شراكاتها بكل استقلالية، بما يخدم المصالح العليا لشعوبها، وهو الطرح الذي استلهمته معظم دول العالم المستاءة من الهيمنة الأمريكية. كما أن رهان الإدارة الأمريكية وحلفائها على خطط الانفراد بالخصوم وهزم روسيا وإضعافها ومن تم التفرغ للصين هو رهان خاطئ يعكس أزمة حقيقية في العقل السياسي الأمريكي والغربي عموما، لما يتسم به من استخفاف واحتقار لذكاء الآخرين، وبالخصوص الذكاء الصيني الذي يعلم علم اليقين أن لا صين قوية ومستقلة بعد دحر روسيا، لدرجة يمكن التأكيد على متلازمة روسية صينية مبنية على وحدة الهدف دفعهما دفعا إلى عقد شراكات استراتيجية على أكثر من مستوى، كما دفعتا أيضا، في إطار تطوير وتمتين هذه الشراكات في اتجاه بناء منظمات إقليمية ودولية بديلة بإشراك دول أخرى تشاطرها نفس الهدف والرغبة في التخلص من نظام الأحادية القطبية والهيمنة الأمريكية لصالح عالم متعدد الأقطاب. كما ان تمادي الغرب الأطلسي في تأجيج الصراع الدولي و الحرب في أوكرانيا بالتورط المتزايد للحلف الأطلسي في هذه الحرب، قد دفع بهذه القوى إلى مزيد من التنسيق ليشمل حتى المجالات العسكرية، وهو ما نلحظه من خلال الزيادة في عدد المناورات العسكرية المشتركة مع إشراك دول أخرى من مجموعة البريكس، كما حدث مع المناورات الأخيرة في جنوب إفريقا التي شاركت فيها كل من الصين و روسيا والبلد المضيف والبرازيل كضيف ملاحظ، وقد سبقتها مناورات ثلاثية إيرانية صينية روسية، وكذا بناء تحالفات عسكرية جديدة في جنوب شرق آسيا. وفي مقابل حلف الناتو الذي يضم كل من أسترالياوأمريكا وبريطانيا واليابان وكوريا الجنوبية فقد بدأت بوادر تشكل تحالف عسكري مناهض للهيمنة الأمريكية يضم كل من روسياوالصين وإيران وكوريا الشمالية وربما دول أخرى من خارج آسيا. كما أن رفض أمريكا للمبادرة الصينية التي تتضمن مبادئ للحل الشامل تنطلق من أوكرانيا وتفيض عليها لتعانق القضايا الاستراتيجية المسببة للصراع، قد يحرر الصين ويدفعها أكثر للانحياز للجانب الروسي، رغم ما يمكن أن ينتج عن هذا الموقف من أضرار مرحلية على الاقتصاد الصيني، خاصة إن كانت هذه الأضرار ستشكل رافعة وفرصة لخدمة المصالح الاستراتيجية المشتركة لكل من روسياوالصين وباقي الدول الرافضة للهيمنة. كل هذا يؤشر على أن العالم ذاهب إلى حرب باردة جديدة خاصة وأن الجميع يقر باستحالة حسم هذا الصراع الاستراتيجي عسكريا، لما يحتمله هذا الحسم من مخاطر اندلاع حرب كونية نووية، وبالتالي فإن العالم مقبل على حالة من " الستاتيكو " على كل الجبهات، بما فيها الجبهة الأوكرانية التي ستجد نفسها فاقدة لجزء كبير من أراضيها شرقا وحتى غربا. كما أن حالة الستاتيكو هاته التي ستشهدها بؤر الصراع الاستراتيجي، ستشكل لا محالة صدمة للعقل السياسي الغربي والأمريكي قد تقوده إلى إدراك التحولات التي يشهدها العالم وما يتسم به من تغير في موازين القوى العالمية، وبالتالي سيجعل مراكز القرار في هذه الدول أكثر استعداد للشروع في مفاوضات استراتيجية حول مستقبل النظام العالمي الجديد. كما أن من أبجديات هذا الصراع ما أصبحنا نسمعه لأول مرة من أمريكا حول ضرورة احترام سيادة الدول وميثاق الأممالمتحدة في إشارة إلى دخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا، رغم أن هذه الحرب قد فرضت من طرف الغرب على روسيا، ورغم أن أمريكا لم تلتزم بهذا المبدأ في أكثر من مائة تدخل لها عبر العالم. هذا بالإضافة إلى ما ذكره ماكرون مؤخرا على غرار ما فاله شولتز حول المفهوم الجديد لعلاقاته بالدول الإفريقية الذي يجب أن يقوم على الشراكة العسكرية والمصالح الاقتصادية المشتركة بما يخدم التنمية المستدامة في هذه الدول. إن طول أمد الصراع الدولي الحالي وفشل رهان الغرب الأطلسي على هزيمة روسيا، وكذا التصيد العسكري الغير المسبوق الذي تشهده الحرب في أوكرانيا، مع كل ما تحمله من مخاطر على السلم الأوروبي أولا والعالمي ثانيا، وكذا التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لهذا الصراع على الشعوب الأوربية خاصة التي بدات تنتظم في حركات احتجاجية شعبية مطالبة بالحوار مع روسيا ومناهضة للحرب ولسياسات الناتو التي تديرها أمريكا في أووربا. هذا الوضع في مجمله بدأ يؤثر بشكل ملحوظ في العقل السياسي الغربي الذي بدأ يقتنع أكثر فأكثر أن لا حل عسكري للصراع الدولي الحالي، وأن الحل الوحيد المتاح هو الحوار بين مراكز القوى العالمية على قاعدة القانون الدولي وميثاق الأممالمتحدة.