إن من بين سلبيات المنظومة الثقافية المغربية، خاصة في شقها المتعلق بتأليه الحكام الذين يعتبرون من وجهة نظر جزء من هذه الثقافة المتشبعة بالعروبة والإسلام، ممثلي الإله في الحكم، حيث "الحاكم أو الملك ظل الله في أرضه"، أنها –أي المنظومة الثقافية- قامت بتحويل بعض الأحداث التاريخية البسيطة من حدث بسيط إلى حدث عجيب خارق للعادة، محاط بهالة من القدسية تمنع التشكيك فيه وتناوله من وجهة نظر مغايرة، كما صنعت لنفسها أحداث غير موجودة أصلا لتحيطها بهالة من القداسة (كما هو الشأن في أسطورة ظهور محمد الخامس على سطح القمر)، وبالتالي استطاعت هذه الثقافة الممزوجة بالأفكار الإسلامية تحويل أحداث بسيطة إلى "أساطير خالدة" مؤسسة لنوع جديد من التيمات الثقافية التي تُستخدم كأدوات إيديولوجية لتوجيه أنظار الشعب في الاتجاه الذي يرغب فيه المتحكمين بزمام الأمور. وهناك أساطير، في إطار نفس هذه المنظومة الثقافية المؤطرة لجزء كبير من ممارسات الإنسان المغربي، عبارة عن حكايات ذات أحداث عجيبة وهجينة في الوقت ذاته، تكون خلفياتها أحداث بسيطة قامت هذه الثقافة بتضخيمها وأدلجتها بما يتماشى مع أهداف منتجيها، لتجعل بذلك الحدث التاريخي شيء وتناوله في المخيال الجماعي شيء آخر. فالحدث الذي هو شيء واقعي نستطيع إدراكه على ضوء الأحداث التاريخية وانسجاما مع منطق الأشياء، والحدث كما هو متناول، أو كما يُنظر إليه في المخيال الجماعي شيء آخر لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالتاريخ والمنطق، وهو ما يعني أنه أصبح أسطورة لا يؤمن بها إلا السذج إلى درجة الغباء من غوغاء هذا الشعب. إذن، هناك فرق شاسع بين الحدث كما هو، وبين تناوله وصورته في المخيال الجماعي. أي بين الحدث ك "حقيقة" نستطيع إدراكها، وبين "الأسطورة" كخرافة لا وجود لها إلا في جزء كبير من عقول الغوغاء. إذ لا مقارنة مع وجود الفارق، تماما كما يختلف الواقع الذي يعيشه الإنسان المغربي على أرض الواقع وما ترفعه الدولة ومؤسساتها من شعارات لم تمت لهذا الواقع بأية صلة، فهذا الفارق يلاحظ للعيان وحتى لعامة الناس. فعندما تُقيم الحالة العامة السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية في دولة العهد الجديد ومقارنتها بالعهد "البائد" ستصل إلى نتيجة مأساوية ومتناقضة في نفس الوقت مع شعارات دولة "العهد الجديد"حيث أن الماضي هو نفسه الحاضر فقط اختلف التاريخ والوقت، وحاضرنا هو امتداد لماضينا، وبالتالي لا يمكن الحديث عن عهدين انسجاما مع منطق التاريخ الذي لم يعرف فيه المشهد السياسي المغربي أي تغيير يُذكر من زمن الحسن الثاني إلى زمن وريث عرشه. ففي العهد القديم كانت تقام طقوس حفل البيعة، حيث يصطف العبيد طوابير من أجل الركوع للملك ولجواده. واليوم وفي العهد الجديد (بين آلاف الأقواس طبعا) هناك من يوهمنا أن الركوع حلال وهو من عند الله وهي عادة مغربية ) تصريح بن كيران للجزيرة(. في الماضي لم تكن ميزانية القصر تُناقش في البرلمان ليتم تمريرها بموافقة ممثلي الأمة (مع التحفظ على المصطلح طبعا لاعتبارات شتى)، وفي عهد الديمقراطية لم يتغير أي شيء باستثناء قيمة هذه الميزانية التي تطورت بشكل سريع، فقد بلغت 257 مليار سنتيم في سنة 2012، بالموازاة مع ارتفاع الجياع والفقراء في مملكة ملك الفقراء. في العهد القديم كانت الدولة تسرق ب"العلالي" أما الآن، وفي زمان الحكم الإسلامي فتم تطوير أساليب النهب والسرقة بما يتماشى مع روح العصر، وأنتج رجال العهد الجديد رزمة من الخدع والقوانين التي تمكنها من نهب وسرقة المال العام بشكل مريح، مع ضمان الإفلات من العقاب طبعا. في العهد القديم كانت صور الحسن الثاني معلقة في كل مكان، في الساحات العمومية، المدارس وحتى في الشوارع. وفي العهد الجديد انضافت صور الإبن إلى صور الأب لتغزوا كل الأماكن التي كانت قد استثنتها صور الأب، مكذبة بذلك خطاب "القطع مع الماضي" الذي يعتبر الحسن الثاني أكبر رموزه، وكأن لسان حال المتحكمين بزمام الأمور يقول "حي يحكم وكذلك ميت". في محاولة لتأليه رجل ارتبط اسمه بسنوات الرصاص. في العهد القديم، ملأ الحسن الثاني الساحة السياسية والإعلامية بأكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، حتى اعتقد انه يقول الحقيقة في كثير من الأحيان، أما في العهد الجديد، وفي زمن يحكم فيه ذوو المرجعية الإسلامية "التي تُحرم الأكاذيب ولو لضرورة قُصوى" فلم يتغير أي شيء يستحق الذكر. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، نطق وزير العدل "الإسلامي" ليؤكد أن التعذيب قد انتهى في المغرب وذهب بلا عودة ولا رجعة، لكن واقع الحال يكذب ذلك، ولعل شهادات المعنفين في سجون النظام ومعتقلاته السرية خير دليل (تصريحات المعتقلين الذين تعرضوا للتعذيب، والإهانة الحاطة من الكرامة الإنسانية، منها الإجلاس على القنينة، ووضع رؤوس المعتقلين في المرحاض ...الخ)، وحالات التعذيب هذه، أصبحت مسلمات بديهية عادية جدا بحكم تكرارها بشكل يومي. بالإضافة إلى تعنيف المحتجين الذي أصبح سلوكا يوميا (المعطلين، احتجاجات حركية المجتمع في مختلف أشكالها...). أما الوعود الكاذبة فحديث ولا حرج، بل يمكن القول إنها أصبحت تيمة خطابية خاصة تعبر عن "الاستثناء المغربي" (وعود رئيس الحكومة بمنح المساعدات المالية للفقراء دون تفعيلها، وعود المعطلين بالتشغيل دون تفعيلها، وعود بتحسن جودة خدمات القطاع الصحي دون تفعيلها ....الخ). في العهد "البائد" نفى الحسن الثاني وجود معتقلات سرية ومنها قلعة مكونة (التي قال عنها بأنها قلعة الورود) وفي 2012 نفى النظام المغربي وجود معتقلات سرية فوق التراب المغربي قبل أن تأتي الفضيحة مدونة بين دفتي التقارير الدولية لتبين الوجه القبيح لهذا النظام وكيفية تعامله خارج إطار القانون مع المعارضين والمشتبه بهم في هذه القضية أو تلك. في عهد الحسن الثاني تعرض كل من تجرأ على المطالبة بحقوقه وانتقاد سياسة الدولة في هذا المجال أو ذاك، لعنف وقمع واغتيال، بل ولمجزرة جماعية (الدارالبيضاء 1965 و 1981، الناظور 1984، فاس 1991، ...الخ)، وهي في مجملها نماذج متعددة لمعنى واحد وهو "إرهاب الدولة" وحاليا في العهد الجديد، نلاحظ أن التاريخ يعيد نفسه من جديد ليرسم صورة جديدة لإرهاب الدولة المنظم بمحرقة الحسيمة واغتيالات النشطاء وإرهاب العائلات (فقط لأن الشرط الدولي لم يعد يسمح للنظام بإغراق البلاد في دورات دموية ). إن من يريد أن يوهم الشعب بأن الماضي ذهب دون رجعة وأن المغرب في الطريق الصحيح كالذي يرى النجوم وسط النهار وكالذي ينتظر الأزهار والورود من صحراء قاحلة، أو كالذي يشرب مياه البحر ويتلذذ بمذاقها. فالماضي هو نفسه الحاضر فقد اختلف التاريخ والوقت فقط، والحاضر المغربي هو ماضيه بصيغة أخرى. فما دام الوطن لا زالت تتحكم فيه أياد غريبة، وضمائر الماسكين بزمام الأمور لا تستوعب سوى النهب والسرقة ولا تملك ذرة من الإنسانية، ولا تهتم لحال الفقراء، بل تتلذذ وهي تزيد فقرا إلى فقرهم. وما دامت آليات المراقبة والمحاسبة الشعبية غائبة، فإنه لا تغيير تحت الشمس. الكل يتغير، حياة الإنسان، طبيعة سلوكاته، المجتمع الدولي وعلاقاته السياسية وترابطاته الاقتصادية، بل حتى الطبيعة والأحياء تتغير، حيث تنقرض أجناس وتظهر أجناس جديدة إلا المغرب الذي لم يستطع أن يخطوا أي خطوة، وأنا أكيد أنه لن يستطيع أبدا ما دام هذا النظام قائما.