في هذا المقال سنفارق "الفاعل السياسي" الذي "سلَّطنا" عليه، وبمعنى من المعاني، مقالاتنا السابقة نحو موضوع يندرج في السياق ذاته الذي هو سياق "النسق السياسي" بالمغرب وباعتباره "نسقا مفلسا" و"مفترسا" في الآن ذاته. وإذا كنَّا، في مقال سابق، قد ركّزنا على "اللغة" باعتبارها مدار تبلور "الإنتاج السياسي"، وعلى النحو الذي جعلنا نستقّر على أنها، وفي الحال المغربية، "لغة منحطّة ودنيئة" ولا ترقي، كما يمكن أن نضيف، إلى أن تعكس "المادة السياسية" وأن تخدمها، فإننا، هنا، سنستقرّ عند موضوع التعامل مع هذه المادة من قبل "القارئ" في صيغته المغربية طبعا. وموضوع في هذا الحجم، وعلى صعيد البحث السياسي والاجتماعي في آن واحد، لا يخلو من أهمية بالغة بالنظر للانفجار الإعلامي وبالنظر لتعدد الوسائط الإعلامية التي كانت وراء إحداث "انقلابات" في أنساق التواصل والفكر معا وفي الجهات الأربع من العالم ككل. فمن الجلي، إذا، أننا لا نعنى ب"القارئ" من منظور "الدراسات التأويلية والأبحاث الهرمينوطيقية" على نحو ما يعنى بها الأساتذة والبحاثة الجامعيون، وفي المدار ذاته الذي يؤكد على "معطى التأويل" ذاته على الرغم من الذوبان في "سلطان الأكاديميا". التأويل الذي يسهم بدوره في توجيه الإنسان وفي تحريك التاريخ. المقصود، هنا، "القارئ العادي"؛ لكن من خارج "سوسيولوجيا القراءة" التي تعنى بمعدلات القراءة وأشكال انتشار الكتاب وتداوله ومتطلبات السوق الثقافية. القارئ الذي راح يفرض ذاته بجوار "المنتوج السياسي"، بل يتكوّر ويتكاثف حول هذا المنتوج. ولا أدل على ذلك من "الربيع العربي" الذي كان ل"الفايسبوك" دور تاريخي في التهييء له وبالتالي تفجير "بركانه" الذي كان وراء إسقاط "أنظمة" راسخة في "الاستبداد الشرقي" فيما الأنظمة الأخرى راحت جميعها تتحسّس خطورة هذا "الإنسان البسيط" أو "الأنونيم" الذي جعل "غودو يأتي هذه المرة"؛ وهذا على الرغم من أشكال الاختلاف المؤكدة في حال "القراءة" أو"التقييم" بخصوص "الثورات" وأشكال "الحراك الاجتماعي" في العالم العربي ككل. والغاية مما سبق أننا لم نعد بإزاء قارئ يقرأ فقط، وقبل ذلك يتقبّل ما يقذف به له من "نصوص" أو من "كلام" أو حتى من "فتات"... ما دام أنه ليس كل ما ينشر دليل على "الفكر" و"التحليل". وكما يقول الفيلسوف الفرنسي الأبرز والأشهر ميشال فوكو: "وجدت الكثير من الكلام، غير أنّي وجدت القليل من النصوص". والنصوص، هنا، في المدار ذاته الذي لا يفارق "الخطاب" الذي يجعل من المجتمع "مجالا" له؛ ومن ثم منشأ "التأثير" في الإنسان والتاريخ من "التحوّل النصوصي" نسبة ل"النصوص" التي تغيّر الإنسان وتحوّل التاريخ. الأهم أن القارئ الصغير صار "يتفاعل" مع "المنتوج السياسي" ومن مواقع شتى تبدأ من "حق الردّ" إلى "حق التعليق" مروروا ب"حق النقاش" وبأشكال أخرى تؤكد أننا بإزاء "نصوص مستقلة" وخصوصا إذا ما افترض فيها "روح التشابك" مع "النص المصدر" في "ملعب الشاشة". وينبغي أن نؤكد أنه حتى "المنتوج الورقي" يخضع، وبدافع من الاستجابة للحس التجاري والانفجار الثقافي، لهذا "التحوّل" الذي يفسح "المجال" لهذا القارئ... بل إن هذا المنتوج صار يتم إعداده وفق هذا التحول حتى يضمن لذاته مكانا في "مغرب اليوم" (كما يفهمه البعض). وللإشارة فهذا القارئ أخذ يجد ذاته، وأكثر، في "المجال السياسي"، مما يشرح "نشاطه المتزايد"، أكثر، في هذا المجال الذي يمكن لأي كان التدخُّل فيه وسواء عن "تحقّق" أو عن "خيال". وعلى هذا المستوى الأخير أحذنا نقرأ عن "ردود" هذا القارئ التي تنتقد، وبشراسة، "المقالات السياسية" التي يأخذ على أصحابها أنها مكتوبة ب"لغة مقعَّرة" في أحيان وب"لغة محدّبة" في أحيان أخرى. لغة لا تفهم بالنظر، وعلاوة ما سلف، ل"طابعها الأكاديمي" ول"آليات المفهمة" التي تطال، ومن الأساس، "أطروحتها" وفي إطار نوع من "الاستغلاق التام" و"التعذر الزكام" مما لا يتيح لهذا القارئ أن يتفاعل معها بطرائقه المخصوصة ومن أمكنته المغلقة والحميمة. وسيكون من باب ما يتجاوز "باحات السجال" نحو "ردهات التناطح" ما لم نقبل بهذا الصنف من القارئ الذي يمكن تأطير "شكواه" ضمن ما ينعت ب"القارئ الصغير". وثمة اتجاهات نظرية مستقلة تعنى بهذا الصنف من القارئ بل وتبحث عنه في سياق التأكيد على ضرورة تسريب المنتوج الثقافي ومدِّه ب"المخيال الاجتماعي"، مما يستلزم "لغة وسيطة" وغير مثقلة ب"مساحيق "التقعر" و"نتوءات الخطاب". ومن حق هذا القارئ الصغير، الذي لم يتخرّج في كليات علوم السياسية وفي معاهد تحليل الخطاب، أن يؤكد أحقيته في أن تكون المقالات في متناوله حتى يقرأها ويتفاعل معها. وهو ما لا يمكنه التحقُّق إلا من خلال "المقال" القائم، ومن ناحية "النظرة"، على "عفريت التصنيف" و"بيداغوجية التدّرج"... والقائم، من ناحية التصميم، على "إغراء المقدمة" و"صفعة الخاتمة". ونحن، من خلال النعوت الأخيرة، لا نسخر... بقدر ما نرغب في التأكيد على "النهج الكتابي التبسيطي" الذي يسحر القارئ الصغير بل ويجعله وكأنه بإزاء "النمط التحليلي" الوحيد والأوحد في "أدغال السياسة". ويظهر، هنا، أنه من اللازم التمييز، وعلى غرار الأنجلوساكسون، بين البساطة (Simplicity) والتبسيط (Simplism) من أجل التأكيد على أن "البساطة لا تعني التبسيط، ولا تنفي بالتالي التعقيد والتركيب". وفي الحق ينبغي الإقرار ب"التعليق" الذي يستلزم لغة مخصوصة تأخذ بصنف القارئ الصغير مثلما تأخذ بأصناف أخرى من القراء وبما فيه صنف "القارئ العالِم" و"المتعالِم" في الآن ذاته. والأمثلة على التعليق كثيرة وعالمية، وهي في القاهرة مثلما هي في نيوررك وريو دي جينيرو... إلخ. وقد نزل إلى "ميدان التعليق"، وفي الصحافة المكتوبة، وقبل الانتقال إلى "عصر المرور عبر الشاشة"، كبار المفكرين والكتاب. وثمة كتب كثيرة كانت في الأصل في شكل مقالات قبل أن تستوي في كتب لا يزال البعض منها لا يخلو من "قيمة فكرية متجدّدة". وثمة مقالات لا تزال تنطوي على القيمة ذاتها على الرغم من أنها لم تظهر في كتب أو أنها غطّت على عناوين الكتب التي ظهرت فيها. لقد كتَب، ومن موقع التعليق، ودونما تنازل عن "عرش التحليل"، كتاب ومفكرون وفلاسفة يصعب عدّهم في هذا المقال بحيزه الزماني والمكاني المحدود. ويكفي أن نستدلّ، في العالم العربي، بصبحي حديدي وعلاء الأسواني... حتى نوميء إلى "التصوّر" الذي نصدر عنه في هذا المقام. وما بين الإسم الأول والثاني، وفي إطار من التعليق ذاته، مسافة فاصلة ما بين، وعلى سبيل التمثيل "التيماتيكي"، تشتيت الذهن من أجل التأكيد على جدوى "الديمقراطية في العالم العربي" وبين الانتهاء إلى أن "الديمقراطية هي الحل" ودونما اعتماد وفي الحالة الثانية على مكاسب "الأسلوب الانشقاقي" و"نهج العبارة المسترسلة". ولنا في حال المرحوم إدريس بنعلي ما يدل على الحالة الثانية، لكن في المدار ذاته الذي يؤكد على أهمية المقال النقدي. وأتصوّر أن القارئ الصغير مطالب بالتمييز بين الحالين وفي أفق الوعي ب"النمط الكتابي" الذي لا يخلو من "تحليل مضمر" ومن "مفاهيم غائمة"... كل ذلك حتى يتّم تلافي دعم "عشوائية المنظور" و"شعبوية الخطاب"، والأخطر، تكريس "الحالة المرضية" في "الحالة المغربية". فالقارئ الصغير مطالب بأن "يتألم حتى يتعلم وبالتالي يتغيّر" حتى لا يكون "علامة موجزة وقرينة مقصودة" على "الفتات السياسي"، ومطالب بأن يبذل جهودا حتى "يفهم ما يقال" إذا جاز أن نستحضر بعضا من الكلام المأثور في تراثنا البلاغي ("لماذا لا تفهم ما يقال؟" في دلالة على صيحة تيار حداثي تمَّت محاربته بشراسة من قبل الفكر السني النقيض). من غير المقبول أن نكتب عن "لماذا يصفق المغاربة؟" وعلى النحو الذي يجعلهم يصفقون أكثر في دلالة على الاستجابة قصيرة المدى ل"الخطاب" القائم على "عشوائية المنظور" التي لا يتمّ فيها التمييز بين "البشر" و"الحطب". وحتى نختم، في هذه النقطة، ف"النص مهما كان عظيما حين يمرّ في عقول صغيرة يصغر، وحين يمر في عقول كبيرة يكبر" تبعا للعبارة التي يكرِّرها الشاعر والمفكر العربي الأبرز أدونيس.