في انتظار توصل حزب الاستقلال بالرؤية الملكية السديدة لترتيب الوضع السياسي لمكونات الحكومة، التي يترأسها الأستاذ عبد الإله بنكيران، يبقى لقرار الانسحاب، الذي انتشى له شباب الحزب بحماس، نكهة خاصة منحت المغاربة مساحة واسعة للتفكير والتحليل السياسي والقانوني، بل أيضا فرصة لتقييم الأداء الحكومي قبل مناسبة الانتخابات وشحذ سيوف التبرؤ من تبعات التدبير. في هذه المساهمة نحاول أن نطرح رؤية أخرى لقرار الانسحاب بما يخدم "الاستثناء المغربي" في التمرين على الديمقراطية وإدارة الاختلاف أو الخلاف بحرية، وأيضا عائداته السياسية على الحزبين المتخاصمين على "كعكة الحكومة" وتداعيته على حياة المغاربة أيضا سياسيا واجتماعيا. على مستوى حزب العدالة والتنمية يبدو أن التزام الأستاذ عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة، للصمت في التعليق عن القرار الاستقلالي، على غير عادته وهو السياسي الصريح والمفوه في التعبير على ما يراه "صح ومعقول"، درس بليغ، تأكدت قوته بالاحتكام إلى النظام الأساسي لحزبه في شأن إصدار أي موقف وأن الرأي المعتد به هو الصادر عن أمينه العام، ليزيد هذا الموقف تعميقا بتصريح "حكيم الحزب" عبد الله باها بكون موقع الحزب هو الإصلاح من أي منصة انطلق هذا الإصلاح. ثاني الدروس من الضجة هو إحداث نوع من "الارتجاج" الموقظ للهمم والقلوب من خطر الاستسلام لنشوة الاستئناس بالكرسي الوزاري والتأكيد أن كل شيء قبل للتغير والتحول، ليس فقط بدافع المؤامرة أو وجود جيوب المقاومة، فهذا أمر يبقى أمرا بدهيا، ولكن بدافع ديني هو قاعدة "الاستخلاف في الأرض"، وأن الله لا يقدر إلا خيرا وإن حسبته العقول البشرية شرا. فتعديل الحكومة أو إسقاطها لا يزيد من الأمر شيء، كما أن المغرب راكم من التجارب ما يمكنه من الخروج من مثل هاته الأزمات بأفضل ما كان عليه الحال قبل وقوع الأزمة(دستور11 يناير بعد الربيع العربي مثلا). ثالث الدروس هو التمرن على إدارة الخلاف والاستعداد لكل التوقعات والمخاطر، وهو أسلوب استراتيجي تتبناه الشركات والمؤسسات الناجحة، سواء في ترتيب مواردها المالية أو البشرية (على مستوى الحكومة: مكونات الأغلبية، أو الأزمة المالية)، وهو صالح لكل الجمعيات المدنية والأحزاب السياسية. رابع الدروس هو التعامل مع بنود الدستور كحاكم للخلاف السياسي وإن تنوعت القراءات، فالمجتمع المغربي بكل فئاته استطاع أن يتمثل بنود الوثيقة الدستورية الجديدة، وإن بشكل انتقائي، مما يعني أن كل المغاربة أصبح لهم حس سياسي ودستوري يحسدون عليه من غيرهم. خامس الدروس، هو أن القرار جاء في فترة جيدة سياسيا للحزب، فهو لم يكن "ضربة معلم" أو "طلقة من وراء الظهر" مرتبطة باقتراب انتخابات جماعية أو تشريعية، بل جاءت في بداية الطريق لترتيب الأمور بشكل دقيق والاستعداد لكل الاحتمالات، وهذا ما يمكن التعبير عنه بنوع من التنكيت ما جعل الأستاذ بنكيران (أخبار اليوم المغربية:يوم الاثنين 13 ماي الجاري) يفرح لعقيقة حفيدته مريم، ونبيل بن عبد الله يشارك في أهازيج أحيدوس مع الزموريين بالخميسات وإن كان لا يتقن الأمازيغية!. على مستوى حزب الاستقلال أول مكتسبات حزب الاستقلال بموقفه الجديد هي التحلي بصفة قلما يحظى بها حزب سياسي، وهي ما عبرته عنه تصريحات زعماء أحزاب بكون قرار"سيادي داخلي"، إذ لم يعد الهامش متسع لدخول جهات خرجية أو داخلية في تدبير القرارات الحزبية، وإن كانت هناك إشارات تشوش على قيمته السياسية (طرح الفكرة بشكل مفاجئ على جدول المجلس الوطني أو القيام بإنزالات.. تبعا لتصريحات تيار "بلا هوادة"). والقرار من وجهة ثانية يؤكد أن حزب الاستقلال في تحول جيلي عميق، لا نقول أنه مرشح للانشقاق لوجود تياران بداخله، ولكن بكون ميزان القوة بحزب الميزان، لم يعد منحصرا تقديره في "قمرة"محدودة العدد، بل أصبح للقيادات الشبابية متسع للمناورة والتأثير وإن اقتضى الأمر قلب الطاولات بلغة"إننا موجودون في الحزب أيضا ولنا تأثير". ثالث الدروس هو دفعة الطابع الاجتماعي في المقاربة السياسية، حيث نجد مطالب وتصريحات الأستاذ حميد شباط، بمنزعها النقابي والاجتماعي،تحاول أن تقول لأهل السياسة بأن الاحتكام إلى المقاربات الماكرو اقتصادية أو الميكرو اقتصادية، ليس هو الوجهة الصحيحة فقط، بل لابد من الانتباه غلى الضحايا الاجتماعيين من كل إجراء حكومي مستقبلي في ما يسمى بالإصلاحات لتجاوز مخلفات الأزمة الاقتصادية، التي تشم روائحها على الأبواب. الدرس الرابع أيضا هو كشف وجوه ساندت فكرة الانسحاب أو لم تعارضها، ليس خدمة لمصلحة الشعب أو الوطن، ولكن فقط للهروب من مساءلة محتملة مستقبلا عن سابق تدبيرها لملفات وزارية، ولذا ليس من اليسير شم روائح العودة لوزارات كانت من اختصاص استقلالي في حالة أن حصل تعديل حكومي بهدف إيقاف عجلة النبش في ملفاتها الفاسدة. خامس الدروس هو أن الحزب فسح المجال متسعا لشبابه للتعبير عما يجيش في صدورهم (عادل بنحمزة، عبد القادر الكيحل، العباسي..) والتعبير عن مواقف ورؤى كانت مكتومة الصوت في ما مضى، وإن جاءت موافقة لنظرة الأمين العام شباط للانسحاب مقابل غياب أصوات شبابية أخرى مؤيدة للاستمرار، وهذه خلة تحسب للحزب أمام"فرملة" بنكيران لأعضاء حزبه في التعبير عن مواقفهم بالاستناد للنظام الأساسي للحزب. أفق الوضع السياسي العام لقد دفع الموقف الاستقلالي بالحجر في بركة السياسة الهادئة، وظهرت قراءات دستورية وسياسية تقدم الوصفات والسيناريوهات المحتملة، كما منح قرار الانسحاب أحزابا في المعارضة حظا من الدعاية السياسية لترقيع الحكومة الحالية في حال انسحاب الاستقلال، مما ساهم في نشر التوعية السياسية بدافع الصدمة، وإن ظهر خفوت للصوت الاتحادي(الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية). فانسحاب الاستقلال، إن تم لقاء الملك مع أمينه العام، الأستاذ حميد شباط وقبول مذكرته التفاوضية، أو عدم قبول العدالة والتنمية لشروطه، تعتبر فرصة تاريخية لحزب الاتحاد الاشتراكي لتجاوز معارضته الاديولوجية للحكومة الحالية والانخراط في حكومة جديدة للدفع بإصلاحاته الشعبية إلى حيز التطبيق (مقاومة الفساد الرأسمالي، الضريبة عن الثروة..). فإمكانبة حكومة يقودها العدالة والتنمية ويشارك فيها التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي وأحد الأحزاب الأخرى مثل التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الدستوري، تمثل دفعة جديدة للحياة الحكومية بالمغرب بدون الاستقلال، وهذا الأفق وإن استبعدته قراءات، فهو ممكن التحقق، فما كان الاتحاد الاشتراكي يتخوف منه من تدبير العدالة والتنمية للعمل الحكومي هو تغليب الهوية عن التدبير، وهذا المسوغ لم يعد له بريق بعد الانخراط في التسيير، ويؤكد هذا المعطى تعايشه الواضح مع التقدم والاشتراكية، ذي النزوع الشيوعي. أما انتظار التحكيم الملكي، فهو يبقى صالحا لترتيب البيت الاستقلالي الداخلي أكثر منه ترتيب البيت الحكومي إن لم تكن ثمة حسابات خفية يجهلها كاتب المقال. فملك البلاد عندما ألقى خطاب التاسع من مارس 2011، وأكده بالمصادقة على الدستور، الذي ربط المسؤولية بالمحاسبة، لم يعد معنيا بمناوشات المصالح الشخصية في تدبير القرار الحكومي، وبالتالي فمبادراته السابقة تقول: "من أراد الإصلاح وخدمة الصالح العام فالباب مفتوح ليتقدم، ومن أراد المصالح الشخصية فقد ولى زمنها بعد الدستور الجديد". كاتب وصحافي