تحليل اخباري - منذ أن نشرت مقالا بعنوان "لصالح من هذا التعتيم على ما في العيون؟"*، وقع جرت مياه كثيرة تحت الجسر -كما يقال-، فقد توالت الأحداث واشتدت الأزمات، بعد أن طالبت المندوبة الأمريكية رايس بتوسيع مهام المينورسو أمام مجلس الأمن الدولي ليشمل مراقبة حقوق الإنسان في الصحراء، وخلف المقترح الأمريكي مواقف متباينة في الخارج، وأثار ردود فعل متناقضة في الداخل، وعلت حمى المزايدات وتعالت أصوات التخوين والاتهامات، وفي الأخير "انفض الموسم" وانتهى الجدل من حيث بدأ، فقد انتهى ببلاغ من البلاط الملكي كما بدأ بدعوة من الديوان الملكي، في إشارة رمزية لا تخلو من دلالة إن الملف من ملفات السيادة التي لا يقربها لا سياسي منتجب ولا رئيس حكومة منتخب. المهم أن القرار أثار ما أثار من الجدل في عواصم دول أصدقاء الصحراء، فعرفت المواقف تباينا كبيرا بين معارض للقرار وداعم له، وفي المغرب أيضا تباينت المواقف بين موقف رسمي أعطى انطلاقته الديوان الملكي وعلامته البارزة ويافطته "الإجماع الوطني لمواجهة القرار الأممي" ومع ذلك لم يحصل الإجماع في أي اجتماع، وبين من رفض الخلط والتغليط وسياسة الاستبلاد والاستحمار الجماعي، وبين من كان ملكيا أكثر من الملك فتجاوز حدود اللياقة والأدب. في خضم كل هذا آثرنا السكوت –مضطرين- حتى ينقشع الغبار، لأنه حين ترتفع حمى الانفعالات والعواطف يخفت صوت العقل والمنطق ويخبو، فكان خيار الإمساك عن الكتابة إبان الأزمة ضرورة ملحة حتى لا تفسر المواقف على غير ما تحتمله، وحتى لا تأول الآراء تأويلا يجنح بها بعيدا على ما رسمناه لأنفسنا من الدفاع عن المبدأ لا عن الأشخاص، وعن القضية لا على الانتماءات. ولأني اخترت الانتصار للحرية وللديمقراطية، والوفاء لهذا البلد الكريم وأهله، والحرص على أمنه واستقراره، أعيد فتح الموضوع مرة أخرى، لتسجيل هذه الملاحظات رغم إدراكي لحساسية الظرفية التي تعيشها مدن الصحراء هذه الأيام: 1-الكف عن شخصنة ملف الصحراء: منذ اليوم الأول اعتبر الراحل الحسن الثاني ملف الصحراء مسألة كرامة شخصية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى مع ضباط الجزائر المتعاقبين، وعلى مدى عقود تم التعامل مع القضية بهذا الشكل من حيث الرؤية ومن حيث الإدارة ومن حيث التعامل فأبعدت الأحزاب والنخب والإعلام عن الملف، واعتبر طابوها من الطابوهات، ولعقود عديدة ظل المغاربة لا يعرفون أي معطيات لا عن خسائر ولا ميزانيات، ولا يعلمون أي شيء عن الأسرى ولاعن الشهداء ولا عن ما يجري في الصحراء، إلا ما يلتقطونه سرا من إذاعة البوليساريو أو ما تسربه الصحافة الأجنبية، ويعلم الجميع موقف النظام من الاتحاد الاشتراكي حين انتفض احتجاجا عن طريقة إدارة الملف بعد قبول الحسن الثاني بالاستفتاء. وللأسف ورث رجال العهد الجديد الملف بأخطائه لمدة طويلة حتى على مستوى الخطاب "قضية الوحدة الترابية"، وحتى حين انتبهوا وناوروا بمبادرة "الحكم الذاتي" لم يخرجوه من دائرة الشخصنة أو يحولوه إلى دائرة الحوار الوطني الجدي إلا إذا كانت تعتبر دعوات الديوان الملكي -التي تفتقد الصفة الدستورية والمؤسساتية – حوارا وإشراكا. فملف الصحراء مغربي والمغاربة قدموا ويقدمون فيه تضحيات من أرواحهم وأمنهم وجيوبهم ومن حقهم أن يعرفوا التفاصيل وأن يكون لهم رأي وقرار فيه. 2-تقوية الصف الوطني: وأول خطوات تقوية الصف الوطني، تكون بالوضوح التام في نشر المعطيات والحقائق والإشراك الحقيقي في صياغة مواقف وطنية تحظى بالاحترام والاقتناع من الجميع، أما سياسة التغليط والكذب على الشعب والتباهي بأنه هناك إجماع وطني بحشد تصريحات زعماء الأحزاب، الذين يعلم النظام أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، أو بعرض مواقف بعض الأساتذة الجامعيين الذين يغالطون الشعب بمعطيات تفتقد المصداقية والموضوعية، فهذا عبث، ولهذا فأول ما يجب أن يعلمه المغاربة أن المغرب الرسمي يعترف بنص قرارات الأممالمتحدة أن الصحراء منطقة متنازع عليها، وأنه صادق على مجموعة من الاتفاقيات بهذا الشأن، وأنه يجري مفاوضات مباشرة مع جبهة البوليساريو برعاية دولية، ففي الجولة الرابعة للمحادثات التي انعقدت بهيوستن(الولاياتالمتحدة) في سبتمبر1997 وقعت المملكة المغربية على اتفاقية تنص صراحة على القبول " بسلطة الأممالمتحدة في الاقليم خلال الفترة الانتقالية". فأي حديث عن السيادة في مناطق متنازع عليها هو تغليط، وأي حديث عن الطغمة وعن الانفصاليين وعن عصابات تندوف هو حديث غير مسؤول، فهذه الازدواجية في الخطاب الرسمي بين الداخل والخارج غير مقبولة وتخلق حالة من الإرباك والارتباك، وهذه المحاولة لحجب الحقائق صارت متجاوزة في زمن العولمة المعلوماتية، فأغلب الرسميين والمحللين والسياسيين لم يجيبوا على السؤال البديهي الساذج في نقاشهم، لماذا ارتعب المغرب من القرار؟ أليس في صالح المغرب الذي يعتبر أن آلاف المغاربة الصحراويين محتجزين في سجون الجزائر وتندوف أن تكون لجانا دولية للمراقبة في الجانبين؟ والجواب أن النتيجة المباشرة لمثل هذا القرار هي جر المسؤولين المغاربة المتهمين أو المتورطين في جرائم التعذيب وانتهاكات لحقوق الإنسان أمام المحاكم الدولية لمحاسبتهم، والجواب أن المغرب لم يتجرأ على المقاربة الشعبية لأنه لم يستطع اختراق جبهة الصحراويين رغم ملايين الرشاوي المقدمة طيلة سنوات، لهذا لم يغامر بقبول القرار، لأن نتيجته المباشرة أنه كان سيقدم فرصة لارتفاع وتيرة الاحتجاج في ظل غطاء أممي ومراقبة دولية، وهذا كان سيحرج المغرب الذي تشير أغلب التقارير أنه بنخبه وبأحزابه وبأمنييه لن ينجح في حشد مسيرة شعبية واحدة مؤيدة لأطروحاته –للأسف- لأن القضية ببساطة كما اعترف الحسن الثاني لوفد البوليساريو الذي زار مراكش في سنة 1989 "المغرب تمكن من السيطرة على الأرض لكنه لم يفلح في كسب قلوب أهل الصحراء الغربية ." 3-نهج البراغماتية السياسية: ينبغي الاعتراف أن ملف الصحراء ملف شائك على مستويات عديدة تاريخيا وقانونيا وسياسيا وإنسانيا ومصلحيا، وأن هناك تقاطع لمصالح العديد من القوة الإقليمية والدولية التي تتداخل بشكل مباشر أو بالوكالة، كما ينبغي استحضار أن المغرب تعرض بسبب هذا الملف وبسبب قضية حقوق الإنسان لابتزاز من أطراف متنوعة، وما يصور اليوم على أنه انتصار للدبلوماسية المغربية هو سقوط في فخ ابتزاز رخيص سيلمس الأمنيون نتائجه بعد حين، كما ينبغي اعتبار أن الملف عمر لفترة طويلة شهد فيها العالم تغيرات كبرى فتغيرت طبيعة الملف تبعا لذلك، فمن كونه تصفية لتركة الاستعمار، انتقل إلى كونه ملف صراع على النفوذ بين المعسكرين ومطالبة بتقرير المصير، وبعد سقوط جدار برلين تحول إلى مفاوضات مباشرة ومساعي لتسوية الملف، ثم انتقل إلى مرحلة صارت التسوية مطلبا دوليا بأي ثمن لضمان استقرار المنطقة في ظل تنامي ظاهرة المجموعات الإرهابية في الساحل الإفريقي، وهذا المعطى شجع المغرب على تقديم مبادرة "الحكم الذاتي" التي حظيت بقبول دولي، لكن هذه الورقة -التخويف بعدم الاستقرار والإرهاب في المنطقة- صارت متجاوزة مع تنامي دور الجزائر والوجود العسكري والاستخباراتي الفعلي لقوى دولية في المنطقة برا وبحرا. لهذا صار من الضروري فتح قنوات حوار مباشرة مع الجزائر وموريتانيا –تجاوز مرحلة المراقبين- باعتبارهما المتحكم الحقيقي في مفاتيح الملف على أرضية رعاية المصالح، وفي ظل هذا قد يكون مقترح حكم ذاتي موسع لفترة انتقالية، وبشروط تفضيلية لكافة الأطراف حلا يحفظ ماء وجه كل أطراف النزاع.وهذا حل يحتاج جرأة سياسية وإجماعا وطنيا بعيدا عن المزايدات. 4-ترسيخ الديمقراطية والحرية والتنمية: إن تقديم نموذج تنموي وديمقراطي حقيقي في الأقاليم الجنوبية، قائم على ديمقراطية محلية حقيقية اختيارا وتدبيرا، هو أحد أكبر التحديات والرهانات التي ينبغي أن يكسبها المغرب. لأن من شأن تقديم نموذج ديمقراطي وتنموي رائد في المنطقة أن يحرج أطراف النزاع، ويجعل مطالبات الوحدويين مدعومة بشهادات واقعية تصمد أمام الدعاية، لكن للأسف هذا التمادي في سياسة التهميش والإقصاء والقمع الممنهج، والتحكم الأمني والعسكري في الملف، والانتهاك للكرامة الإنسانية –والذي تعانيه كل مناطق المغرب حقيقة- يدعم الطرح الانفصالي ويقويه، وسيقويه أكثر إذا ما تمادى بعض رجال السلطة في خروقاتهم وغبائهم السياسي الذي يضر بمصالح المغرب العليا، وعليه لابد لمن يمسكون بالملف أن يدركوا أن وتيرة الاحتجاجات سترتفع بشكل أكبر مادامت مسبباتها الموضوعية قائمة، لهذا عوض التحجر في المقاربة الأمنية لابد من تبني إستراتيجية جديدة قوامها: 1. -فتح الملف أمام جميع القوى الوطنية لتوحيد الرؤية حول الملف وتشكيل إجماع وطني حقيقي.تكون نواته شخصيات وطنية تاريخية تحظى بالاحترام في الداخل والخارج. 2. -توسيع دور المجتمع المدني في الأقاليم الجنوبية ورفع كافة أشكال التضييق. 3. -إرساء دعائم تنمية حقيقية وتوزيع عادل للثروة والقطع مع اقتصاد الريع وسياسة إرشاء الأعيان وشراء شيوخ القبائل وشراء الذمم. 4. -القطع مع كافة أشكال وطقوس الإهانة والإذلال والإخضاع، والتعامل مع الصحراويين على أنهم مواطنين أحرارا لا عبيد متمردين ولا رعايا آبقين. 5. -إرساء آلية وطنية مستقلة وغير رسمية لمراقبة تجاوزات السلطات العمومية بجميع أشكالها في مجال الحريات وحقوق الإنسان. 6. -تعيين أطر وطنية ذات خلفية سياسية واعية بحساسية الملف وطبيعة المنطقة وتتمتع بقدرات كبيرة على الحوار والتفاوض. 7. -محاسبة كل المتورطين في التجاوزات السابقة من رجال السلطة وإبعادهم عن المنطقة كإجراء وقائي استعجالي. 8. فتح حوار جدي مع القوى الجديدة في المجتمع الصحراوي خاصة الشباب فديمغرافية الصحراء تغيرت بشكل كبير منذ مدة وخلقت وضعا جديدا. وفي الأخير لابد من التأكيد أن قضية الصحراء هي رهان داخلي قبل أن تكون تحديا خارجيا، فكلما قوينا الصف الداخلي استطعنا تحقيق مكاسب، أما الدبلوماسية العرجاء دبلوماسية "الشاي وكعب الغزال وإهداء التكاشط والقفطان" والصخب الإعلامي فقد صارت متجاوزة وغير ذات جدوى، لأن المواقف في الغرب تصنعها المؤسسات لا الأشخاص، لهذا ينبغي تشكيل لوبيات ضاغطة مغربية ثقافية وسياسية وإعلامية واقتصادية في عواصم أوروبا والعالم قادرة على التأثير وعلى الحوار -لا متخصصة في التجسس وكتابة التقارير- لوبيات قادرة على الإقناع بمصالح المغرب وبأن الصحراء مغربية وليست مخزنية. *نبهني المهندس أحمد ابن الصديق مشكورا أني أغفلت إيراد أسماء العديد ممن كتب حول التجاوزات في العيون، ومن جملتهم شخصه الكريم، وهو إغفال غير مقصود فهو وأمثاله من الشرفاء يحفظ لهم الوطن والتاريخ كلمة الرجولة في زمن الرداءة والجبن. إسماعيل العلوي هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.