بعد انتصار الثورتين التونسية والمصرية خرج علينا بعض محترفي وسماسرة السياسة وجهابذة الكتبة الذين يغمسون أقلامهم في المحبرة المخزنية ليؤكدوا أن "المغرب قام بثورة الياسمين عبر ترسيخه للمشروع الحداثي الديمقراطي الكبير" دون خجل. بينما سارع آخرون إلى تسخيف الرأي الآخر الذي توقع امتداد جغرافية الثورة التونسية والمصرية لتشمل جميع الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية في المغرب العربي. وبدأ التشكيك في وطنية أصحاب هذا الرأي، بل وُصفوا ب"أعداء الوطن" و"المنجِّمين" وغيرها من النعوت التي تستبطن ثقافة يمينية محافظة "إما معنا أو ضدنا"، والحال أن الله حاور الشيطان وأفسح له المجال للتعبير عن رأيه على الهواء مباشرة دون تدخل مقص الرقيب. لا ينبغي أن ندفن رؤوسنا في الرمال ثم نُجرِّم ونُخوِّن الرأي الآخر الذي يرى ما لا نراه، بينما نعيش اليوم فورة شبابية ومجتمعية تتشوف للتغيير الجذري، وهو ما يجري في دول عربية كثيرة تبعد آلاف الأميال عن تونس ومصر. فهل نصم الآذان ونغمض العيون ونقول لأصحاب الرأي الآخر: كفوا عن هذا التنجيم. قمنا بثورتنا الهادئة بقيادة الملك...إن بلادنا محصنة ضد الانتفاضات الشعبية والمغاربة معتادون منذ فترة طويلة على التعبير عن أرائهم ولا يحتاجون للنموذج المصري أو التونسي!. هذا كلام غير معقول وغير واقعي ولا يأخذ في الحسبان المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي يعيشها المجتمع المغربي، ولا ينظر إلى الحركة الانسيابية للتاريخ وقدرة الإنسان على الاختيار وصناعة مستقبله بإرادته وحريته بعد أن غسلت الثورة التونسية والمصرية قلبه من الخوف وفجرت طاقة الجسارة المكنونة لديه. فلم يكن رغيف الخبز والوظيفة وحدهما وقود ثورة الإنسان التونسي والمصري، بل الإرادة في الفكاك من أغلال الاستبداد والبلطجية والشعور بالمهانة والذل... إن التحليلات التبسيطية لبعض المسؤولين المغاربة لا تختلف كثيراً عن تحليلات سحرة النظام الفرعوني البلطجي. ألم يخرج أبو الغيط بعدما تهاوت أركان النظام وحاصر المتظاهرون المؤسسات السيادية ليفسر أسباب اندلاع الثورة المصرية وهو الذي وصف إمكانية امتداد الثورة التونسية إلى مصر ب"الكلام الفارغ". إن نزعة التجريم والتخوين لا تخدم سوى أجندة الأطراف التي تود الحفاظ على ديمومة الوضع الراهن وحالته السكونية، وربما إعادة إنتاج النماذج التي تتهاوى وتتساقط أمامنا اليوم، لأنها تستفيد من هذا الوضع في تعزيز مواقعها وتمديد نفوذها في مفاصل المؤسسات وترتيب أوراقها في انتظار الاستحقاقات المقبلة. وتتناغم هذه النزعة التخوينية التجريمية مع خطاب تلك الأطراف التي ترى أن "مواصلة ورشات الإصلاح تقتضي خلق دينامية مجتمعية حاملة لقيم ومبادئ ومرتكزات المشروع الديمقراطي الحداثي، مشكلة بذلك حصناً في مواجهة القوى المناهضة لمسلسل الإصلاح والمشككين في الدخل والخارج في قدرة المغاربة على إرساء نموذج مغربي في البناء الديمقراطي". إن المنطق المؤسس لهذا الخطاب السياسي والإعلامي يقول للآخرين لا أريكم إلا ما أرى، لأن أصحابه يملكون الحقيقة ويعرفون ما يصلح لهذا البلد وما يضره أكثر من غيرهم، ويعلمون الوقت المناسب لإجراء الإصلاحات السياسية ومتى تكون خيراً وبركة ونعيماً ومتى تتحول إلى شر مستطير. لذلك فالحديث عن الإصلاح الآن وهنا ينبغي أن لا يتجاوز في نظر هؤلاء تصحيح الاختلالات المؤسساتية والإسناد الفكري لترسيخ الاختيارات الديمقراطية والحداثية التي تحافظ طبعاً على جوهر النظام السياسي وحالته السكونية المخزنية!. وهكذا رأينا السعي المحموم لحزب سياسي خرج من رحم السلطة إلى خلق طبقة اجتماعية حاملة ل"مشروعه السياسي" وآماله وأحلامه في خدمة النظام المخزني، وبالطبع لم يأل جهداً في تسخير كل الوسائل والأدوات للوصول إلى هذا الهدف. فرأينا كيف هرول "ممثلو الشعب" إلى الوافد الجديد، وكيف اخترق بمشروعه بعض مؤسسات المجتمع المدني وبعض الوسائل الإعلامية ومراكز الدراسات للدعاية والخدمات المطلوبة وأشباه النخبة المثقفة... إذن، يراهن هذا المشروع على التمدد والاكتساح لكل الخطوط والجبهات والمواقع لضمان حاضنة وقاعدة اجتماعية واسعة حاملة لأفكاره وداعمة لسياساته واختياراته، إذ يعلم الحزب الوافد جيداً أن وظيفته المخزنية تقتضي تمدداً أفقياً في النسيج الاجتماعي والمهني لاكتساب شرعية اجتماعية، ما يرسخ شبكة العلاقات المصلحية الزبونية التي تخدم خطابه السياسي. لذلك لا يتحدث الحزب عن التعديلات الدستورية لإرساء نظام ديمقراطي يقطع مع المنظومة المخزنية، وإنما يسعى في المرحلة الراهنة إلى خلق هذه الطبقة الاجتماعية الحاملة لمشروعه المخزني السلطوي. إن استمرار رهان السلطة على هذا الاختيار المخزني "حزب السلطة" يجعلها خارج التاريخ ولا تقرأ الأحداث الجارية في تونس ومصر، حيث انهارت مؤسسات النظام الفرعوني البلطجي في "رمشة عين" لما تفككت حاضنته الاجتماعية وتبخرت، إذ لطالما سمعنا أن عدد أعضاء الحزب الوطني يتجاوز ثلاثة ملايين، كما تخبرت الشبكة المافيوزية لرجال المال والأعمال الذين نهبوا خيرات البلاد وتفككت آلته البلطجية البوليسية... وهو السيناريو الذي حدث مع مؤسسات نظام بن علي. ينبغي للسلطة أن تستشرف المستقبل ب"المنظار" الذي يتطلع إليه الشعب المغربي المتشوف لنظام سياسي ديمقراطي مستند إلى معايير دولة الحق والقانون ومجتمع المواطنة، ومبتدأ ذلك تعاقد سياسي جديد يؤسس لدستور ديمقراطي مؤطر للمجال العمومي دستورياً بديلاً عن دستور السلطة المؤسس للفردانية الهلامية. يا جماعة السلطة استيقظوا، واقرؤوا الأحداث جيداً، بل وافهموا الدرس التونسي والمصري جيداً... إن حركة التاريخ جارفة... لكن أخشى أن تكون جماعة السلطة خارج الزمن ولا تنظر إلى المستقبل...