لعلَّ مِن أعمق وأكثر علاقات الجوار تعقيدا تلك التي تجمع بين المغرب وإسبانيا منذ فتح الأندلس وإلى الوقت الحالي، فكل الدارسين لمسيرة ومسار هذه العلاقات يُجمعون على كونها دائمة التقلُّب بين مد وجَزْر، غير أنهم يؤكدون أن العلاقات الثقافية بين البلدين لم تتوقف أبداولم تتأثر بالعوامل السياسية المتغيرة. ولعل أدقَّ وأشمل الكتابات والدراسات هيتلك التي ينجزها الإسبان عن المغاربة-أو عكس ذلك-ثم يلتفت إليها هؤلاء ويطرحونهاعن طريق الترجمة بين أيدي القراء ليكشفوا عن رؤية مختلفة, متفحِّصة وعميقة لواقعنا وكأنه يضعنا ومعيشنا اليومي تحت المجهر وامام المرآة. ويعتبر كتاب دراسات صحراوية لمؤلفه العالِم الأنتروبولوجي خوليو كاروبروخا وترجمة الدكتور احمد صابر،من أغنى الدراسات التي أنجزها الإسبان حول منطقة الصحراء المغربية. هذا الكتاب هو ذخيرة توثيقية نادرة حول الصحراء المغربية خلا ل خمسينيات القرن الماضي حيث يقوم المؤلف بتحليل دقيق للبنية الاجتماعية ومكونات ساكنة الصحراء وثقافة وعادات وتقاليد قبائل الصحراء من خلال ماعاينه الكاتب نفسه ومن خلال محكيات الرُّحل وأعيان القبائل.كما يضمُّ هذا الكتابعددا مهما من الصور والخرائط والرسومات ونماذج من الشعر الفصيح وكذا الحساني. وهذا ما حفَّز المترجم إلى الإسهام في التعريف بهذا الكنز الثقافي. يقول المترجم في هذا الصدد:"إن الكم الهائل من المعارف التي تكتنزها الذاكرة الحية بخصوص التراث المغربي لم يحْضَ حتى حدود الساعة، وللأسف، بالاهتمام الذي يتطلّبُه ويستحقّه. وغالبا ما لا نَنْتبِه إلى حجم الهَفوة –إن نحن انتبهنا فعلا في لحظة ما – إلا بعد فوات الأوان أي بعد أن نكون قد دفنا جزءا من التراث مع وِعائه الذي ليس سوى تلك المرأة المُسنَّة أو ذلك الرجل المسِن الذي يغادرنا إلى الأبد حاملا معه قسطالا يستهان به من ذاكرتنا، أي من هويتنا…ومن تم وجب علينا أن نسائل أنفسنا: هل وضعنا حقا ضمن أسبقيات برامجنا التنموية كمسؤولين مسألة توثيق التراث؟ (…هي مهمة) ينبغي أن تكون في طليعة مهام وواجبات الباحثين المحليين أنفسهم". ويعتبر د/ أحمد صابر من أبرزالباحثين المهتمين بالتراث المغربي عموما وبالتراث المحلي لجنوب المغرب خصوصا. كما أنه من المترجمين الذين يبحثون في المكتبات الأجنبية وخاصة الإسبانية عن نوادر الكتب التي توثق للتراث المغربي والعربي عموما ويشتغل على تاريخ العلاقات المغربية الإسبانية ويبحث في الموروث المشترك بين المغرب وإسبانيا. صدرت ترجمة كتاب دراسات صحراويةوالتي تقع في 662 صفحة سنة 2019 عن منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي. وينقسم الكتاب الى خمسة فصول بالإضافة إلى ملحق خاص، يمكن اعتباره هو الآخر فصلا سادسا لما يتضمنه من دراسةٍ وتحديدٍ لمواقع القبائل الصحراوية وخصائصها اللغوية وكذا من وصف لبعض الحفلات الصحراوية ولنماذج من أعراف الصحراء. ويتناول الفصل الأول النظام الاجتماعي التقليدي والقيم التاريخيةفي الصحراء حيث يحلل بالتفصيل مكونات الأسرة والعائلة والقبيلة والفخذ والفروع ويتحدث عن السلطة داخلها وعن دور الأعيان في تسيير الحياة الاجتماعية وعن مهمة "جْماعة" في ترتيب الحياة الإدارية والتشريعية في المنطقة. أما الفصل الثاني المُعنون باقتصاد الساحل فهو بمثابة مسح جغرافي دقيق للصحراء حيث يرسم الأنثروبولوجي خوليو كاروبروخا الجهات الأربع وسط الصحراء ويشرح سُبل التوجيه في الميدان قبل أن ينتقل إلى حياة الرحل ويتتبع رحلتهم عبر الصحراء ويدرس علاقتهم بالأرض والماشية والوحيش وعلاقتهم ببعضهم مع التوقف عند خاصية تواجد العبيد داخل بعض الأسر أو عند تواجد المرأة (الأم أو زوجة الأب) على رأس الأسرة. كما يتحدث عن المهن التي يحترفها الرحل وكذا تدخل السلطات الإسبانية لحل النزاعات القضائية بينهم. ويخصص الكاتب الفصل الثالث لنمط التعايش بين الرحل فيتوقف عندالخيمة وأنواعها وخصائصها الشكلية ومعداتها بالإضافة إلى التنقيب عن أصول عائلات الرحل وأكثرها نفوذا مثل أصحاب النسب الشريف وآل الشيخ ماء العينين. وبعد ان أدلى الكاتب خوليو كاروبروخا بملاحظاته ونتائج دراسته وتحليله لما عاينه شخصيا حول منطقة الصحراء،ينتقل في الفصلين الأخيرين ليستنطق الذاكرة التاريخية الحية لسكان الصحراء من خلال تدوين حكايات الرحل حول أصولهم وأنسابهم ومثقفيهم وأشعارهم وتاريخهم ومعيشهم اليومي وتطلعاتهم المستقبلية. كما دون الكاتب تاريخ معاركهم وجهادهم ضد الفرنسيين كما يحكيها فرسان قبائل الرْڭيبات أو أولاد بوسْبَع أو أولاد سَلاّم وغيرهم. إن أهمية هذا الكتاب-ومن تَمّ أهمية ترجمته إلى العربية-تكمن في ثلاث نقاط: -الأصل في الكتاب أنه تقرير مفصل دقيق وموضوعي عن كل ما يتعلق بالصحراء وساكنتها، كُلِّف بإنجازه العالم الأنثروبولوجي خوليو كاروبروخامنطرف المدير العام للمغرب والمستعمرات خوصي دياثبييكاس وذلك سنة 1952، فجاء بمثابة مرآة تعكس كل ما يختبئ في رمال الصحراء. -الكاتب هو أحد أهمالمتخصصين في الأنثروبولوجيا، الأمر الذي جعله يُلِمُّبكل الجوانب الحياتية البشرية،التاريخية،الجغرافية،الثقافية، اللغوية وغيرها للمنطقة التي يكتب عنها. ينضاف الى هذا كونه أجنبي يستكشف المنطقة لأول مرة، لهذا "من البديهي القول بأن الأمور التي تلتقطها عين/عدسة الأجنبي عن المغرب وتسترعي انتباهه قبل غيرها ليست بالضرورة تلك التي تستوقفنا نحن بصفتنا الساكنة المحلية، وذلك مهما كان الواقع المحيط بكل منهما واحدا. بل حتى إن تعلق الامر بالشيء نفسه،فان المنظور عند الاثنين يكون مختلفا…إن جل ما تلتقطه عين (بروخا)في الصحراء وتركز عليه انطلاقا من شبكته الثقافية الإسبانية نمر عليه نحن المغاربة عموما بسرعة فائقة دون التوقف عنده وذلك بحكم انه في نظرنا امر "مألوف" و"معتاد" و"يومي" وبالتالي نعتقد خطأ بان لا داعي حتى للتوقف عنده"، كما يقول المترجم أحمد صابر.فيكون الكاتب بتفاصيل كتابه هذا قد أهدى للمكتبة وللباحث المغربي كنزا من كنوز الموروث الثقافي الصحراوي الذي لم يدونه المغاربة أنفسهم. إضافة الى ما كتبه الكاتب انطلاقا من ملاحظاته وتحليله للواقع والوقائع فإنه يترك المجال للصحراويين ليعطوا قراءتهملتاريخكم واحوالهم ومستقبلهم. فيكون الكتاب بذلك قراءة لواقع واحد من منظورين مختلفين. – لقد ساهمت الترجمة في اخراج هذا الكتاب من درج النسيان داخل المكتبة الاسبانية الى أروقة المكتبة المغربية والعربية عموما ليكون نقطة انطلاقة لبحوث جامعية ولمشاريع بحثيةلاكتشاف وإحياء الموروث الصحراوي انطلاقا مما جاء في هذا الكتاب.