1- العلمانوييون العرب ،نحن أو ... لا أحد ! : من شأن المحلل المحايد أو المهتم بالقضايا السياسية العربية ، و هو يتأمل مآلات أو بالأحرى حصاد الربيع الديمقراطي ، أن يستحضر حزمة من النتائج و الخلاصات ذات الصلة بالانتفاضة العربية الكبرى ، التي انطلقت من تونس منذ سنتين لتنتشر كالنار في الهشيم في أغلب الدول العربية ، مطالبة بإسقاط الفساد و الاستبداد ، و وضع حد لعقود من الجبروت و الإقصاء ، و هدر الكرامة الإنسانية و المال العام بدون وجه حق ، و المطالبة بإقامة نسق سياسي ديمقراطي يكفل للمواطنين الحرية و العدالة و الكرامة .. و لعل من ضمن هذه الخلاصات أن عددا كبيرا من أدعياء الحداثة ، و المحسوبين على التيارات العلمانية في العالم العربي ( من الماء إلى الماء ) ، بعيدون كل البعد عن امتلاك الوعي الإنساني الحداثي بحصر المعنى ، كما أنهم لا يتمثلون آليات و محددات المنجز العلماني الكوني ، القائم على مجموعة من المرتكزات التي أضحت من مسلمات المشترك البشري ، أقلها الاستناد إلى الديمقراطية باعتبارها هدفا استراتيجيا لا محيد عنه ، و القبول بالتداول على السلطة ، و الاعتراف بشرعية الاختلاف و الحق في التعددية ! و الحال أن هذه الاتجاهات "العلمانوية / الحداثوية " أمضت عقودا و هي تشنف مسامعنا بقصائد تمدح فيها كذبا "معشوقتها " الديمقراطية و الأعراف و المواثيق و القوانين المعترف بها دوليا ، و لما زلزلت أرض العرب زلزالها ، و احتكمت بعض دول المنطقة ( مغرم أخاك لا بطل ) ، إلى صناديق الاقتراع و اختار الشعب الأحزاب الإسلامية المعتدلة لتولية الحكم ، انقلب العلمانويون 180 درجة على " المبادئ و القيم الإنسانية " ، و عوض أن يعترفوا بالهزيمة و يسارعوا إلى ممارسة النقد الذاتي و مراجعة الدروس لمعرفة بؤر ضعفهم ، و العمل على التعاطي معها علميا لمواجهة استحقاقات قادمة ، فضلوا الهروب إلى الأمام ، لا بل هناك من كفر بالمنظومة الديمقراطية ككل ، و هناك من طالب بعودة الفلول المدنية و العسكرية البائدة ( مصر –تونس ) لحماية "مكتسبات" عهد الدم و الرصاص ! 2- الإسلام السياسي ، حضور شعبي و خصاص في التجربية : الخلاصة الثانية لحصاد الربيع العربي تتمثل في مفارقة بالغة الصعوبة ، فبقد ما أن الإسلام السياسي يهيمن على غالبية الشعوب العربية ، بفضل نظامه المحكم و قربه من المواطنين و ترهل الكيانات الحزبية التقليدية ، التي فقدت أصلا صلاحيتها ! بقدر ما أنه ( الإسلام السياسي ) يفتقر إلى التجربة المطلوبة و ميكانيزمات ممارسة المسؤولية الميدانية ، في مجالات كثيرة كالاقتصاد والساحة و السياسة الخارجية .. جراء استثنائهم من الاحتكاك القانوني بالمؤسسات ، و المساهمة في بناء المجتمع و الدولة ، بل إن بعض الحكومات الإسلامية التي جاء بها الربيع العربي ، ارتكبت أخطاء جسيمة في فترة زمنية محدودة جدا ، و سقطت بسهولة في فخ المكائد و الاستفزازات الممنهجة و المقصودة ، خاصة فيما يخص علاقة الدين بالسياسة ، و الحريات الفردية ، و التعددية بمختلف تجلياتها ، و ضرورة الفصل بين السلطات ، و عدم التدخل في حرية الإعلام و استقلال القضاء . لذلك يتوجب على الحكومات الإسلامية أن تدرك بوضوح لا لبس فيه أن الشعب إنما اختارها كي تحقق له ما يتطلع إليه من أهداف مرتبطة ارتباطا وثيقا بحياته اليومية ، من عمل شريف و حرية و كرامة و عدالة اجتماعية .. بمعنى ؛ مستوى معيشي لائق . ندرك صعوبة الأوضاع الاقتصادية العربية و العالمية الحرجة و خطورتها الاستثنائية ، و ندرك بنفس القدر السقف المرتفع لانتظارات الشعوب العربية المحرومة ، و لكننا نقر في الآن عينه أن صبر الشعوب قد ينفذ ، و قد تهتز ساحات التحرير و التغيير مرة أخرى ، و ربما تكون في صورة أكثر خطورة و رهبة ! 3- الكتلة التاريخية أو بيضة القبان : في مستهل الثمانينيات من القرن الماضي و بالضبط سنة 1982 ، أعلن الفيلسوف العربي محمد عابد الجابري عن حتمية إنجاز الكتلة التاريخية ، كوسيلة مثلى للخروج من عنق الزجاجة ، صحيح أن المفهوم تم استمداده من الثقافة الغربية ، و بالخصوص من الناشط اليساري و السياسي الإيطالي أنطونيو غرامشي ، و لكن السياق العام الذي اشتغل عليه هذا الأخير لا يختلف كثيرا عما يطبع واقعنا العربي من مفارقات سياسية و عرقية و لغوية و دينية و طبقية .. تستدعي هكذا كتلة تنصهر فيها مختلف الحساسيات و التيارات الوطنية الصادقة و المؤمنة بالديمقراطية و القيم الإنسانية الرفيعة إيمانا صادقا ، إذ ليس هناك أي تيار سياسي مهما تعاظمت شعبيته أن يدعي القدرة على تحمل أعباء الوطن الثقيلة بوحده . إن المرحلة التاريخية التي نعيش لحظاتها مرحلة عصيبة بأدق معاني الكلمة و دلالاتها ! إننا كشعوب عربية من المحيط إلى الخليج حرمنها قرونا من السنين من نعيم الحرية و العدالة و الكرامة .. و بالتالي فإن انتقالنا (الممكن ) إلى عالم الديمقراطية هو بمثابة انتقال من النقيض إلى النقيض ، من عالم إلى عالم آخر مختلف عنه أداة و محتوي ، و إذا لم نخش المبالغة لقلنا إن عبور العرب إلى النسق السياسي الديمقراطي المتعارف عليه دوليا هو ثورة كوبرنيكية حقيقية ! و تأسيسا على ما سبق يمكن القول بأن معالجة أمراضنا العربية المزمنة تستدعى تدخل كل الفرقاء و الأطراف و الحساسيات التي تحب الخير للوطن و الأمة ، دون أي تمييز أو إقصاء ، بل و دون التحجج بنتائج الانتخابات . إن الحكومات الإسلامية في مصر و تونس و المغرب في حاجة ماسة إلى أن تنفتح على كل التيارات الدينية و العلمانية الوطنية دون أي إحراج أو تردد ، كما أن الهياكل السياسية الحداثية و الليبرالية الوطنية أيضا ، مطالبة أكثر من أي وقت مضى بإبداء قدر كبير من التواضع و مد يد المساعدة للخصوم الإسلاميين ، لأن الكل في سفينة واحدة ، و الجميع معني بالعمل المشترك من أجل بناء غد أفضل ، و مستقبل أكثر إشراقا بعيدا عن لغة الضغائن و المكائد ، التي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى التهلكة و التدمير الذاتي !!