مقدمة : إن الحديث عن ما ترتب عن وباء كورونا من تحولات وتغيرات في المجتمع المغربي يعد مغامرة محفوفة بالمخاطر، لأن الوقائع الاجتماعية المتولدة عن الوباء لازلت في طور التشكل والتكوين، وحتى تلك الظواهر التي تبدو ظاهريا مكتملة وقابلة للملاحظة كبناء لواقع اجتماعي جديد، هي في الحقيقة منقوصة لأنها لم تخضع بعد لعملية الموضعة والإستدماج[1]، الأمر الذي يجعل هذه الظواهر بالغة التعقيد، يكتنفها غموض كبير، حيث تتداخل العوامل الداخلية للفرد بالعوامل الخارجية التي يفرضها المحيط المباشر الذي نعيش فيه، لذلك، يجب أن تتسم قراءتنا للواقع الجديد الذي تفرضه جائحة كورونا بنوع من التريت والرزانة، بعيدا عن المقولات المجازفة والمتسرعة، كالتي تقول مثلا بأن كورونا خلقت واقعا مغربيا عنوانه "مغرب ما قبل كورونا، ومغرب ما بعد كورونا"، وهي مقولات متهافتة غير مستندة إلى أية أسس علمية، قد يتدهور الاقتصاد من جراء الوباء، وقد تسوء أحوال الناس ويزيد بؤسهم، ويتفاقم فقرهم، لكن طبيعة النظام الاجتماعي، وديناميات التفاعل الاجتماعي وتوزيع القوة والثروة والنفوذ في المجتمع، وأنماط الوعي والروابط الاجتماعية، بقيت وستبقى على حالها، بل ازدادت وستزداد تصلبا واستحكاما، لماذا؟ لأن الأفراد في مجتمعنا المغربي لا يستجيبون إيجابيا للصدمات التي واجهتهم على مر السنين. لم يتكيف العقل المغربي مع المستجدات لمواجهة التحديات والصعاب، أي أنه لم يساءل الأفكار والمرجعيات التي تؤطر تمثلات الناس لأنفسهم ولمجتمعهم من أجل التجاوز والتقدم، بل بقي العقل المغربي قابعا في سباته، عاكفا على تقديم قرابين الولاء والأساطير، لتحميه من لعنة الطبيعة والفيروسات. بقي الوعي الجمعي المغربي خاضعا لأوهام المؤامرة تفاديا للإجابة عن الأسئلة المقلقة عن أسباب تخلفه، مرتعبا من كل جديد يلوح في الأفق، وكأن العالم كله متآمر ضده، فازداد العقل المغربي تشبثا بأصوله الدينية والإثنية، منتشيا بنقائها وبطهرانيتها وبسموها على العالمين، مختصرا المسافات التي تفصله عن الحضارة بمقولات لاهوتية قديمة من قبيل "الابتلاء". الابتلاء فكرة فقهية متداولة بين العامة والخاصة من المغاربة، وتعني بأن الله يمتحن إيمان عباده بتسليط الآفات والكوارث والأوبئة عليهم. مسألة الابتلاء هذه من العوامل الأساسية والحاسمة في امتصاص الصدمات، وتطويعها لتصير تثبيتا وترسيخا لنظام فكري ماضوي يقتات من الأساطير اللاهوتية عوض الأخذ بالأفكار والمناهج العلمية الحديثة. سنحاول في هذا المقال استعراض بعض الصدمات التي تعرض لها الإنسان الأوروبي الحديث، وكيف ساهمت هذه الصدمات في بناء الدولة الحديثة، والمجتمع الإنساني الحديث، ثم سنعطي بعد ذلك بعض النماذج للطريقة التي قام بواسطتها الوعي الجمعي المغربي بتطويع الصدمات وتقويضها خدمة للفكر اللاهوتي التقليدي. كورونا.. الصدمة : لا يختلف مختلف على أن وباء كورونا شكل لأغلبنا صدمة وجودية قاسية ما كنا لنتصورها حتى في أحلك كوابيسنا، صدمة عمقت من جراحنا وأذلت كبرياءنا وطعنت نرجسيتنا، إنها بالفعل محطة تاريخية مفصلية في سيرورة الوجود البشري، صدمة موجعة تنضاف إلى سلسلة من الصدمات الموجعة الأخرى التي وبالرغم مما أحدثته من دمار مادي ومعنوي إلا أنه يرجع إليها الفضل في ولوج المجتمعات الأوروبية الغربية إلى عالم الحداثة، تم ذلك عندما استطاع العقل الأوروبي الغربي أن يتفاعل إيجابيا مع مستلزمات وتحديات الصدمات التي واجهته ليؤسس عصرا جديدا غير به وجه التاريخ، ودفع عجلة التقدم والتطور الحضاري إلى الأمام. [2] بعض الصدمات التي أثارت الاستجابة الإيجابية للعقل الأوروبي تحدث عنها سيجموند فرويد في مقال رائع نشره سنة 1917 بعنوان "صعوبة أمام التحليل النفسي"، تناول فيه فرويد ثلاث صدمات أو جروح كبرى، جرح كوني، وجرح بيولوجي، وجرح سيكولوجي. أول طعنة تلقتها نرجسية الإنسان، كانت طعنة كوسمولوجية كونية على يد نيكولا كوبرنيك، هذا الأخير، يعتبر أول من رمى بحجر النار في حجر العصور الوسطى، وذلك عندما نشر كتابه الشهير عن "دوران الأجرام السماوية" سنة 1543. تضمن الكتاب نظريته الثورية التي تقول أن " الأرض، موطن الإنسان، ليست محور الكون، ولا هي نقطة الارتكاز لهذا الوجود"، مثلما كان الإنسان متوهما لقرون طويلة. كان هذا الاكتشاف العلمي صفعة قوية جدا لنرجسية الإنسان الذي كان يعتقد بأن العالم صمم من أجله تعظيما لشأنه، كما علمته الأديان والأساطير القديمة. عام 1859، سيتلقى الإنسان طعنة ثانية على يد العالم الإنجليزي الكبير شارلز داروين عندما نشر كتابه الشهير "أصل الأنواع"، هذه المرة كان الجرح أكبر وأعمق ومازال ينزف إلى اليوم. كان الإنسان قبل داروين يعتقد أنه من أصل الآلهة ومنحدر من أصل سماوي علوي يميزه عن كل الكائنات الأخرى،. ليتبين مع داروين، أن الأنسان ما هو إلا نوع متطور من فصيلة القردة العليا التي تنتمي إلى مملكة الحيوان، أدرك الإنسان الأوروبي في النهاية أنه لا حكمة في وجوده أكبر من حكمة وجود الحشرات والحيوانات التي تتشارك معه الأرض، أحدث هذا الاكتشاف زلزالا نفسيا رهيبا أصاب الإنسان بالخوف والرعب. الطعنة الثالثة التي سيتلقاها الإنسان، صدمة سيكولوجية على يد سيجموند فرويد، حيث لم يبق الإنسان هو ذلك الكائن ذو الحالة الشعورية الواعية والحاضرة على الدوام، ما عاد الإنسان تلك الذات الفريدة التي تتخذ قراراتها الحياتية عن وعي كامل، بل أرجع فرويد كل أفعال الذات الإنسانية وتصرفاتها لرغبات وغرائز لاشعورية، لا واعية، مكبوتة ومدفونة بقعر النفس الإنسانية، ليصير اللاوعي هو جوهر الإنسان الحقيقي الذي يتحكم في قراراتنا وتصرفاتنا من تحت ستار وعي واهم وخادع. يمكننا إضافة صدمات وجروح أخرى للجروح الثلاثة التي تحدث عنها سيجموند فرويد، كنقد العقل الخالص عند إيمانويل كانط. هذا النقد هو الذي أزاح العقل من مركز المعرفة، وحدد له مساحة معينة للتعقل في نطاق الظواهر المعروضة عليه. تأتي جائحة كورونا كواحدة من هذه الصدمات، لتجهز على ما تبقى للإنسان من غرور وكبرياء، وتجعله تائها في حالة من اللايقين، وفي قلق وجودي ينتظر الفناء المؤجل. جائحة كورونا هي أكبر من أن تنحصر في أزمة صحية أو اقتصادية أو مالية، فهي كارثة إنسانية هاجمت قلب مجتمعاتنا، متسببة في حالات متعددة من الاضطراب والارتباك، شككت في قدراتنا الطبيعية على التأقلم وقضت على إحساسنا بالأمان والسيطرة. استجاب العقل الأوروبي العقلاني إيجابيا للصدمات التي تعرض لها على مر التاريخ، حيث شكلت له حافزا قويا ليتخلص من هالة من الأوهام التي كانت تحيط به، تظهر الاستجابة الإيجابية للعقل الأوروبي واضحة في تعاطيه مثلا مع الأوبئة التي كادت تعصف بوجوده، كالطاعون العظيم في القرن 14، الذي قضى على ثلث سكان أوروبا[3]. لم يبحث العقل الأروبي على الخلاص من الوباء في النصوص الدينية، ولم يتخد من أوهام المؤامرة منهجا لإدارة أزماته، بل قبل وتبنى الحقائق العلمية وواجه الأسئلة الكبرى بالبحث المستمر عن حقائق مدعومة بأدلة علمية، ووقف أمام نفسه عاريا من ثياب الطوباوية وأساطير المرحلة الطفولية للبشرية (كما قال فرويد). استجاب العقل الأوروبي للوباء مقتنعا بأن العلم هو أفضل وأنجع وسيلة معرفية أوجدها الإنسان ليصل إلى الحضارة، لتتهاوى بذلك مكانة ومنزلة الفكر الديني ويتراجع دور الكنيسة، ويظهر جهاز الشرطة الحديث، فكان من عواقب الصدمة أن نشأت الدولة الحديثة والمنهج العلمي، فانتقلت أوروبا من سلطة قائمة على الإيمان إلى سلطة قائمة على احترام القانون. هذا النموذج من الاستجابة الإيجابية للكوارث هو ما جعل إيمانويل كانط يرى في "رسالة التنوير" أن البشرية بلغت حد النضج[4]. استجابة العقل المغربي للوباء : الابتلاء يظهر من خلال تجميع شهادات متعددة أن الموقف الأكثر انتشارا بين المغاربة من وباء كورونا، هو أن الله سلط هذا الوباء على الناس ليمتحن ويختبر إيمانهم، وليذكر عباده بأنه مهما بلغ الإنسان من تطور في كافة العلوم، تبقى إرادة الله غالبة، وعلى العباد ان يتعظوا ويخشوا قدرة الله وجبروته، وهو ما يعرف في التراث الإسلامي بالبلاء و الإبتلاء، بتعبير آخر، تحتل فكرة الابتلاء مكانة مركزية بين التفسيرات المتداولة بين المغاربة حول ما نجم عن وباء كورونا من وقائع جديدة، والابتلاء فكرة فقهية شائعة في أدبيات وكتب التفسير والتاريخ والسير عند المسلمين، وتعني كما أشرنا سابقا، أن الله يختبر إيمان عباده بتسليط الآفات والكوارث والأوبئة عليهم. لدينا من الشواهد التاريخية الكثير من الأحداث الموثقة التي تبين كيف استجاب المغاربة للصدمات بإرجاعها إلى فكرة الابتلاء، ونذكر هنا على وجه التحديد، ردود فعل النخب المغربية المتعلمة من فقهاء وعلماء دين ورجال سياسة على الموجات المتتالية من الأوبئة التي عرفها المغرب، كطاعون 1788، والموجات العنيفة للكوليرا التي ضربت المغرب في القرن 19. اعتبر مثقفو المغرب وعلماؤه أن الوباء قدر وابتلاء وإرادة إلاهية، وبالتالي، فلا اعتراض على قضاء الله وقدره، ومن هؤلاء المثقفين نذكر على سبيل المثال، أحد كبار علماء السنة وعلم من أعلام التصوف المغربي في القرن 18، وهو ابن عجيبة الإدريسي[5]، حيث كتب مؤلفا اعتبر فيه وباء الطاعون ابتلاء من عند الله، ينتقل بإرادته، ولا يجب الإعتراض على حكم الله وإرادته، بل إن ابن عجيبة اعترض على كل محاولات الحماية والوقاية من الطاعون، وأنكر بشكل مطلق وقطعي أي وجود للعدوى[6]. الموقف نفسه أفتى به الشيخ محمد الحضيكي[7]، أحد كبار علماء سوس في القرن 18 حيث كانت توجيهاته العقدية في مواجهة الوباء أن دعى تلاميذه إلى ضرورة التسليم بالقضاء والقدر، والصبر على ما أصابهم[8]. أما في القرن 19، عندما بدأت أوروبا في تطبيق الحجر الصحي لمواجهة الأوبئة، اعتبر المؤرخ المغربي المعروف "أحمد بن خالد الناصري" أن تطبيق الحجر الصحي كما يتم تطبيقه في أوروبا هو بمثابة تشبه بالنصارى، وتقليد للكفار، واعتراف بتفوقهم، كما أنه اعتراض على قضاء الله وقدره، وبالتالي، فهو أمر لا يجوز. ومن شواهد الاستجابات الموثقة للأوبئة والقائمة على فكرة الابتلاء، الرسالة التي بعث بها السلطان الحسن الأول لباشا طنجة يلومه فيها ويوبخه لأنه اتخذ قرارات لحماية المدينة من تفشي الوباء، واعتبر ذلك خروجا عن الدين واعتراضا على حكم الله. جذور الابتلاء : تجد فكرة الابتلاء جذورها الأولى في الفكر اللاهوتي اليهودي، وفي التحولات التي طرأت على نظرة بني إسرائيل للكون ولموقعهم كجماعة دينية في هذا الكون، ونظرا للتداخلات المتعددة بين اليهودية والإسلام، سيستقر مفهوم الابتلاء في الفكر اللاهوتي الإسلامي كمفهوم مركزي يغذي نظرة المسلمين لأنفسهم ولما يحيط بهم من ظواهر. أقدم نظرة كونية لاهوتية عند اليهود هي "النظرة العهدية"، وهي نظرة شاملة تخص بني إسرائيل دون غيرهم، وتسمى "بالعهد القديم"،. المسيحيون بدورهم سيتبنون هذه النظرة الكونية، لكن بمسمى جديد وهو "العهد الجديد" المرتبط بالمسيح، أما التراث الإسلامي، فسيقتبس هذه النظرة العهدية بالتوفيق بين العهدين القديم والجديد، وذلك بالإبقاء على ناموس العهد القديم دون إنكار نبوة المسيح. وتتمثل النظرة العهدية في الاتفاق القديم بين الله وشعبه المختار، ويقضي الاتفاق أنه "إذا حفظ بنو إسرائيل العهد ونفذوا الوصايا والشرائع والأحكام فسيحميهم الله، وسيعلي شأنهم". لكن ظهرت مشكلة جعلت بنو إسرائيل يفكرون في استبدال هذه النظرية العهدية بنظرية كونية أخرى، والمشكلة مفادها أنه بالرغم من أن بني إسرائيل حفظوا العهد، إلا أنهم مروا من محن قاسية ومتتالية، أي أن الله لم يحميهم ولم يعلي من شأنهم. نجم عن ذلك تمايز صارخ بين مقتضيات العقيدة وبين الواقع الأليم على الأرض، لتدخل النظرة العهدية في أزمة وتظهر نظرة كونية أخرى هي "النظرة النبوية". النظرة النبوية تحيل الى فكر لاهوتي قاده مفكرون يسمون في اللاهوت اليهودي "أنبياء" كأشعيا، وعاموس، وحزقيال وغيرهم، تقوم النظرة النبوية على فكرة لاهوتية مركزية، مضمونها أن اليهود يعانون ويتعذبون وتسلط عليهم الأوبئة والأمراض والهزائم لأنهم لم يلتزموا بالشرائع والأحكام، وبالتالي فلا خلاص لهم إلا بالعودة والرجوع إلى الأصول التشريعية والوصايا الإلاهية. المشكلة هنا مرة أخرى، أنه بالرغم من تنفيذ اليهود للقوانين والوصايا والأحكام الإلاهية إلا أن وضعهم المأزوم بقي على حاله، فحدث تطور آخر في الفكر العقائدي، حيث حاول الحاخامات مصالحة العقيدة الإيمانية مع الواقع الأليم لليهود، لتظهر نظرة كونية جديدة من رماد الفكر اللاهوتي النبوي، وهي النظرة الرؤوية. تقوم فكرة النظرة الرؤوية على فكرة أن الشعب اليهودي يعاني، ليس لأنه حاد عن الطريق والوصايا، بل لأن العالم تسيطر عليه قوى الشر وجنود الظلام، وهذه القوى الشريرة تتسلط أساسا على الصلاح والمؤمنين لزعزعة إيمانهم، معنى ذلك أن الناس عندما يعانون فهم يعانون بسبب صلاحهم وليس بسبب شرورهم، فالصلاح والمؤمنون هم المبتلون، أي أن الإنسان البار هو الذي يبتلى وليس الشرير، عكس ما تعتقده النظرة النبوية بأن الإنسان الشرير هو الذي يبتلى. الأوبئة والأمراض والكوارث في المنظور الرؤوي ليست من عند الله، بل من عند الشيطان، ليظهر بذلك الفكر التوحيدي المزدوج، القائم على إلاه وشيطان، إله واحد هو مصدر كل ما هو خير وصلاح، وشيطان رجيم مصدر كل ما هو شر وفساد. هناك من اللاهوتيين من يرى بأن الله سيتدخل بخطة فداء وينتصر على قوى الظلام، ويقيم مملكته العظيمة، وهناك من اللاهوتيين من يرى بأن الإنسان هو الذي سيقيم مملكة إلاهية كمملكة إسرائيل التي ينتظرها اليهود، ودولة الإسلام التي ينتظرها المسلمون، أما المسيحيون، فيعتبرون بأن الله انتصر على قوى الظلام بالمسيح المصلوب. إلى اليوم ما تزال النظرة النبوية والنظرة الرؤوية تتصارعان، لكن بالرغم من صراعهما، فكلتيهما تؤكدان على مسألة الابتلاء. احتفظ علماء الدين المسلمين بفكرة الإبتلاء وأدخلوا عليها تعديلات طفيفة تلائم نظامهم العقدي، ليصبح الابتلاء مفهوما مركزيا في عملية تعاطي المسلم مع الوقائع والأحداث والمستجدات، واستمرت الفكرة إلى اليوم في تشكيل تمثلات الناس لما يصيبهم من محن وكوارث وأوبئة. خلاصة أمام الصعوبات المنهجية التي تعترضنا عادة عند دراسة سلوكات الأفراد في المجتمع المغربي، يظهر التحليل الوظيفي أكثر ملاءمة لفهم وتحليل سلوكات الأفراد وردود أفعالهم اتجاه الظواهر و الوقائع الإجتماعية، أما التحليل التفاعلي، فيشترط النظر للفرد كذات نشطة، مبدعة وخلاقة، وليس فقط وعاء سلبيا يتلقى المثيرات الخارجية ويستجيب لها، حركة المجتمع حسب هذا المنظور، تتميز بالطابع الواعي لسلوكات أعضائه، نستحضر هنا على سبيل المثال مفهوما مركزيا لآلان تورين، وهو مفهوم التاريخانية، ويقصد بها قدرة المجتمع الحداثي على إنتاج التوجهات الاجتماعية والثقافية الخاصة به، ويتحقق ذلك بقيام الإنسان الحديث بدراسة علمية لتوجهاته وسلوكاته بشكل واعي. المجتمع المغربي مجتمع تقليدي رغم مظاهر الحداثة المشكلة لبنائه الاجتماعي، و الفرد فيه قابع وسط البنيات التقليدية، تتجاذبه مقولاتها المهيكلة لوعيه الجمعي، يفتقد إلى الإرادة الراسخة والقدرة على التحكم في مصيره، والأخذ بزمام أمره بيده. الفرد في مجتمعنا يفهم ويفسر ويتعامل مع الوقائع الاجتماعية بالاستعانة بأدوات خارج الحياة الاجتماعية، كالعناية الإلهية، والعقاب الإلاهي، والابتلاء، والقدر… مجتمعنا المغربي لا يؤمن بحرية الفرد في التصرف أو في المبادرة، الإنسان المغربي لم يحقق بعد استقلاليته عن تأثير الجماعة التي تضمه بعنف أحيانا، وبالتالي فاستخدام التحليل التفاعلي المحتفي بالفرد أبعد من أن ينطبق على الفرد في المجتمع المغربي. التحليل الوظيفي أكثر فعالية في دراسة سلوكات الأفراد وتصرفاتهم اتجاه وباء كورونا في المجتمع المغربي، لأن الوظيفية تعتبر القيم المشتركة مفهوما مركزيا يمارس قهرا على الأفراد ويحدد سلوكاتهم وأفعالهم وطرق تفكيرهم، إن بوعي أو بدون وعي. ينظر الوظيفيون للفرد على أنه خاضع، مستسلم، سلبي، تابع للوعي الجمعي عبر منظومة من القيم والمعايير والقواعد التي يتم ترسيخها في الأذهان من خلال عمليتي الإدماج والضبط الاجتماعيين. وهذه المقاربة متلائمة تماما مع حال الفرد في مجتمعنا، حيث نرى الإنسان المغربي متماهيا مع القيم والقواعد الموروثة، منصهر في الجماعة، قابع تحت سطوتها وجبروتها، يعرف نفسه من خلال انتمائه لها. ذات الفرد في مجتمعنا منسلخة عنه، منتسبة لإثنية أو لدين أو لقومية، ذات الفرد في مجتمعنا منفية، مقموعة، محرم عليها حتى الحديث عن نفسها، لأن الحديث عن الذات تمرد على الجماعة وانفلات من سطوتها، وإن وقع وتحدث الفرد عن نفسه في مجتمعنا مستعملا للفظ "أنا"، فكأنما اقترف ذنبا شنيعا، فيواصل الحديث مستدركا "أعوذ بالله من قولة أنا"، وكأن لسان حاله يقول للجماعة "لا تسيؤوا الظن بي، أنا معكم، خاضع لقيمكم، ملتزم بقواعدكم". من خلال هذا التوضيح المنهجي، نستطيع أن نفهم لماذا لا يتفاعل المغاربة إيجابيا مع الصدمات، ومن ضمنها صدمة كورونا، ونستخرج بسهولة العوامل التي حالت دون التفاعل الإيجابي مع الصدمات التي تعاقبت عليهم طيلة تاريخهم المعاصر، ومن أهم هذه العوامل، الهيمنة المطلقة للبنيات التقليدية التي استبعدت وجرمت كل مساءلة للأفكار والمرجعيات والقيم التي تؤطر تمثلات المغاربة لأنفسهم ولمحيطهم. وبدلا من ذلك طور المجتمع المغربي مناعة قوية ضد كل محاولات التغيير التي ترمي إلى إعادة النظر في الثوابت المؤسسة لوعيه الجمعي، ليبقى هذا الوعي الجمعي منفلتا من كل ملاءمة أو توافق مع مستلزمات أو ضروريات الحياة المعاصرة. هكذا، نفهم كيف يلتف الوعي الجمعي المغربي على الصدمات، بتثبيت المقولات اللاهوتية وترسيخها في زمان غير زمانها، وفي مكان غير مكانها، يتم ذلك من خلال تصعيد خطاب الخوف المرضي من الآخر المختلف، والدعوة للانزواء والانطواء وراء شعور مزيف بالأنا، والتشديد على مؤامرة دولية تستهدفنا دون غيرنا، رغم أننا لا نتوفر على شيء نحسد عليه… ليستمر وعينا الجمعي في المكابرة والتعالي إزاء الفتوحات الحداثية والتنويرية، خاضعا، خانعا لسطوة أصوليات البنى التقليدية من جهة، وأصوليات الحركات السياسية من جهة أخرى. المراجع : محمد الأمين البزاز، تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب، مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، سنة 1992. أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق جعفر الناصري، ومحمد الناصري، منشورات وزارة الثقافة والإتصال 2001 [1] حسب بيتر بيرغر وتوماس لوكمان، من خلال التفاعل الدياليكتيكي بين الذاتي والموضوعي يتم بناء العالم الاجتماعي عبر ثلاثة مراحل، التخارج أو التشييء والموضعة والاستدماج. [2] تم نقل المقال الى العربية اعتمادا على الترجمة الفرنسية الموجودة في المصدر التالي : سيجموند فرويد، المؤلفات الكاملة في التحليل النفسي، (1916-1920) المجلد XV. دار النشر الجامعية الفرنسية، 1996، ص. 41-51 [3] J.-N. Biraben, Les hommes et la peste, Paris, Mouton, 1975. Tome 1 La peste dans l'histoire. Annexe IV (p.375 -449) Liste nominative et chronologique des localités touchés chaque année par la peste dans les différentes régions de l'Europe et du bassin méditerranéen de 541 à 775 et de 1346 à 1850. [4] أجاب إيمانويل كانت عن سؤال ما هو التنوير؟ بقوله:" إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد." كما عرَّف القصور العقلي على أنه "التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا." ومن هذا المنظور جاءت صرخته التنويرية لتقول: "أعملوا عقولكم أيها البشر! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فلا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والقدر والمكتوب.. تحركوا وانشطوا وانخرطوا في الحياة بشكل إيجابي متبصر. [5] هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن الحسين بن محمد بن عجيبة الإدريسي الحسني الشريف، وُلد في مدشرا عجيبش في مدينة تطوان سنة 1758م [6] رسالة: سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر- طبعت ضمن مجموع تحت عنوان: "الجواهير العجيبة من تآليف سيدي أحمد ابن عجيبة"- عبد السلام الخالدي [7] هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن سليمان الجزولي [8] المعسول- المختار السوسي- ج/3- ص: 185 جامعة ابن زهر أكادير