وأنا أستمع إلى جزء من محاضرة الأستاذ حسن أوريد وهو يتحدّث عما أسماه "الهوَس الهوياتي"، لم أفكر لحظة في الأمازيغ الذين ألصق بهم صديقنا مصطلحه بشكل مثير للاستغراب، خاصة وأنّ هؤلاء ارتبط ذكرهم منذ عقود بمفاهيم "التنوع" و"الاختلاف" و"التعدّدية"، المفاهيم التي ألهمت محرّري الوثيقة الدستورية المعدّلة، كما كانوا هم أنفسهم هدفا لذوي الأطروحات الأحادية الاختزالية، قوميين عربا كانوا أم إسلاميين، والذين كانوا ومازالوا يعتبرون التعدّدية والتنوع مؤامرة للتقسيم وزرع الفتنة. أن يصل الشعور بالانتماء إلى درجة الهوَس والهذيان، يقتضي أن يتواجد صاحبه داخل منظومة مغلقة، إنها نوع من النرجسية التي لا يرى فيها المرء إلا نفسه ولا شيء غيرها، ولهذا يختزل العالم في ذاته. والمشكلة أن الأمازيغية هوية انفتاح منذ أزيد من 33 قرنا في المجال الحضاري لحوض البحر الأبيض المتوسط، ولا تسمح بهذا النوع من الهوس النرجسي. بل إن ثمة من اعتبر الأمازيغ بلا هوية أصلا من شدّة انفتاحهم على الغير وعشقهم لثقافات الشعوب المجاورة والغازية وإتقانهم للغاتها. الواقع أنني وأنا أستمع إلى الأستاذ أوريد، انصرف ذهني بالكامل إلى الذين يعتبرون أنفسهم أنبياء جددا يبعثون شرع الله على الأرض، كما ذهب فكري إلى ذلك الخطيب المتهوّر الذي ما فتئ يصرخ من على منابر الخطابة، إلى أن بلغ به الغلو أن هدر دم أحد الصحفيين بدون وجل لأنه اختلف معه في معنى الحرية. وتذكرت كذلك الخطيب الذي ينتمي إلى الحزب الأغلبي في الحكومة، والذي يحظى منذ سنوات بمقعد في البرلمان، حيث لا يتوقف أبدا عن إدهاشنا وإتحافنا بأفكاره السمحة، كمثل مطالبة وزير الأوقاف بمنع الأفلام السينمائية التي لا تنسجم مع "هوية البلاد" (كذا!)، التي يختزلها الخطيب فيما يشغله هو ومن معه، متناسيا بالطبع زميله في الحزب الذي هو الوصيّ الفعلي على القطاع. وكمثل اعتباره قبل أيام فقط الثقافة "ميوعة" و"مجونا" إلى أن تنضبط لوصفاته المحنّطة، واعتباره التعدّد "تبدّدا" إلى أن يعود الناس إلى الحظيرة مثل القطيع ليضع عليهم الخطيب ميسمه، ويشملهم برعايته ورضاه، هو ممثل "الأمة"، والداعية إلى الله بعد أن أفسدت الحضارة الناس واشتد حنينهم إلى البداوة. انصرف ذهني أيضا وأنا أستمع إلى الأستاذ أوريد إلى الداعية الذي قال: لو بُعث بنبركة لجاز قتله ثلاث مرات وأربعا، كما تذكرت المنظّر المقاصدي الذي أعلن أن "الدولة مليئة بالملاحدة"، وأنّ على المغرب بتر الأعضاء والرجم بالحجارة والعودة إلى الطقوس الهمجية التي هجرتها أمم وشعوب الأرض. وتبادر إلى ذهني أيضا المواطن ذو اللحية الطويلة الذي اعتبر أنّ "الإرهاب مصطلح قرآني"، إذ يأمرنا الله ب"إرهاب أعدائه"، كما فكرت في الوزير المتخصص في "الإقتصاد الإسلامي" الذي أعلن بمجرد اعتلائه منصبه أنّ على الحكومة وضع "خطوط حمراء" للإبداع الفني والجمالي، مراعاة لذوق وزراء الحزب الأغلبي، الذين لم يكونوا قط من جمهور الفن أو محبيه، وكأن معايير الجمال تتغيّر بتغيّر الحكومات والوزراء والخطباء وقادة العسكر. وتذكرت زميله الوزير الذي عبر بدوره عن انزعاجه من كثرة المهرجانات الفنية والثقافية، وزميلهما راعي العدل والحريات الذي اعتبر السواح القادمين إلى مراكش "بعيدين عن الله"، دون أن ننسى زميلتهم الوحيدة في الحكومة، التي لا تخفي عداءها لمكتسبات المرأة المغربية في معركة المساواة ومحاربة الميز باسم "الخصوصية" و"الأصالة المغربية". إنها تصريحات طافحة بالهوَس والهذيان و"رفض الآخر" كما عبّر السيد أوريد، وهي أمثلة توجد على قارعة الطريق لكثرتها، ويمكنه اختيار أي منها مثالا ونموذجا حياً، عوض النظر إلى سوءات ذوي القربى وعيوبهم، والتي ليست بشيء يذكر أمام عيوب غيرهم.