هناك دائما بون شاسع بين الفكر وتصريف الفكر. ويتسع هذا البون عندما يتعلق الأمر بالنظريات السياسية وإن مع تفاوتات. في الغالب يتمخض كل صراع سياسي عن محاولة كل طرف فيه لتكييف نظريته السياسية إن وجدت، أو خطابه السياسي في الحد الأدنى، مع متطلبات ساحة المعركة، ويكون هذا التكييف في الغالب الأعم بحجم رهان الصراع ويختلف باختلاف الأطراف المتدافعة. في تاريخ اليسار، أخضع فكره للعديد من التكييفات سواء ليتلاءم مع هدنة تكتيكية، أوبالعكس ليشعل فتيل مواجهة وإن لم تنضج شروطها. وقد كان اليسار بمختلف تلاوينه هو الأحرص على أن يجد لكل تحرك ولو تكتيكي أصلا في نظرية حتى إن اقتضى الأمر تعديلها . واتخذت عمليات التكيف هذه أشكالا مختلفة، فمنها ما أثمر عن تفكير جدي لحل إشكاليات التعاطي مع واقع قد لا ينسجم دائما مع ذلك الموصوف في النظرية، ومنها ما ظل مجرد حركات بهلوانية لا عمق لها ، انتهت بأصحابها إما إلى الاضمحلال أو إلى الاصطفاف مع " خصم " الأمس والدفاع عنه بشراسة، في محاولة للتخلص من إرث يقف حجر عثرة أمام مصالح شخصية أو فئوية. وفي العالم العربي الإسلامي، لا يمكن لمنصف أن ينكر حجم القمع الذي تعرض له أنصار اليسار وبالخصوص أولئك الذين تبنوا الفكر اليساري خالصا من اي " شوائب" قومية أو قبلية أو اثنية. غير أن المعارك التي فقد فيها اليسار كثيرا من ريشه، إن لم يكن جله، تظل هي المعارك التي لا مكان لليسار فيها اصلا، والتي أقحم فيها بفعل فاعل، وفي أحيان كثيرة انطلاقا من تحول غريزة الانتقام الفردية إلى غريزة انتقام جماعية، أو من غباء فكري واستراتيجي بالخصوص. ومن هذه المعارك بالتحديد معارك اليسار العربي خاصة، ضد الدين وتمظهراته حتى قبل أن تبرز تيارات إسلامية تخوض صراعها من أجل الدين ، أو باسم الدين على نطاق واسع. لقد لجأت الأنظمة التقليدية أو العسكرية القائمة في العالم العربي مع الاستقلالات الأولى ، إلى التمترس خلف حماية الدين لمواجهة تيارات يسارية تنادي بتوزيع عادل للثروة. وقامت الدعايات الرسمية ضد الحركات اليسارية على كون الماركسية أساسا نظرية إلحاد، وتم الترويج على نطاق واسع لمقولة " الدين أفيون الشعوب" باعتبارها جوهر الماركسية والشيوعية وكل فكر يساري من أجل تنفير الشعب من الماركسيين "الملاحدة" والشيوعيين "أعداء المساجد". وإذا كان من الطبيعي أن يلعب كل طرف أوراقه كاملة في معركة صفرية بين يساريين طامحين لتغيير قواعد اللعبة بشكل جذري ومنظومات ترفض اقتسام، فبالاحرى ، التخلي عن السلطة والثروة، فإن الغريب وغير الطبيعي هو أن يسلم طرف ما ،وعن طيب خاطر، بل وبحماسة زائدة، نفسه لخصمه ليقوده للحلبة التي يختارها هو . لقد انبرى يساريون كثر لدخول " الفخ" وهم راضون فتمسكوا ودافعوا عن " الدين أفيون الشعوب" أكثر من دفاعهم عن الطبقات الدنيا وعن توزيع الثروة وتحرير الإنسان من منظومة إنتاج ظالمة. لقد رأى ماركسيون في العالم الإسلامي، ودون سند منطقي، ان الدين هو عماد السلطة القائمة في هذا البلد أو ذاك فاعتبروا بالتالي أن " تسفيه" التدين يحرر المجتمع من هذه السلطة التقليدية ويفتح الباب أمام الثورة المنشودة. إنه اختزال خطير، وأخطر ما فيه هو أنه سيحول بعض اليسار إلى مجرد " حركة لادينية " لا أقل ولا أكثر ، وسيقطع أي امتدادات محتملة لها وسط أغلب شرائح المجتمع والتي يشكل الدين بالنسبة لها خطا أحمر، تجاوزه يعني القطيعة. فالدين ، الذي اعتبره يساريون مجرد أداة لفرض أو لاستدامة سلطة على المجتمع، سيتحول إلى قاعدة للثورة على هذه السلطات نفسها في عدد من البلدان، وهو ما سيؤكد بأن حضور الدين في المجتمع أعمق وأوسع مما صورته تحليلات يسارية كثيرة . فالدين في نهاية المطاف ليس عماد سلطة قائمة أو معارضة طامحة ، إنه في أغلب الحالات، أبرز مكون لهوية المجتمع والفرد معا وكثير من المظاهر الخادعة أو الآنية لا تغير من هذه الحقيقة. لقد انتصرت الأنظمة التي حكمت البلاد العربية الإسلامية منذ موجة الاستقلالات عن المستعمر أو حتى قبلها ، على البوادر الأولى للحركة اليسارية العربية ، في اللحظة التي بدأ الخطاب اليساري يتحول إلى خطاب معاد للدين والمتدينين بشكل غطى على كونه في الأساس خطابا معاديا للفقر والاستغلال، وهو الخطاب الذي تخشاه المنظومات السياسية والاقتصادية السائدة. وبعد سقوط " الاتحاد السوفياتي " ، أي بعد غياب " النموذج" المفترض اختار عدد من اليساريين في العالم العربي التحول بشكل كامل وحصري إلى مناهضين للحركات الإسلامية، سواء عبر منصات سياسية أو حقوقية، ليس في إطار البحث عن تموقع سياسي دائما بل في أحيان كثيرة ك" أداة وظيفية" لصالح أحد أطراف الصراع على السلطة مقابل حضور غير مؤثر أو مقابل امتيازات سواء شخصية بحتة أو خاصة بمجموعة محدودة. إن المطلع على أدبيات كثير من التنظيمات اليسارية العربية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي بالخصوص يلاحظ أن الحرب على الإسلاميين ، سواء انتقاما (من مواقف أو أعمال مؤلمة اتخذتها أو قامت بها حركات إسلامية ضد اليسار في أوج القمع الذي تعرض له) أو انتهازية، أصبحت تشغل الحيز الرئيس من جهد الكثير من "اليساريين" لتغيب بشكل نهائي أي إحالة على الصراع ضد الاستغلال الاقتصادي والوقوف إلى جانب الطبقات الدنيا في صراعها اليومي مع رأس مال معولم . وعلى النقيض من ذلك ظل جزء من اليساريين أوفياء لمرجعيتهم، موقفا وتحركا، غير أن الجهد التنظيري عجز عن مواكبة متطلبات مرحلة جديدة تطورت فيها آليات الاستغلال وتعقدت فيها سبل تزييف الوعي بالموقع الاجتماعي. إن الجهد النظري اللازم للقطع مع أخطاء الماضي ولمواكبة واقع متحول ، ليس ترفا بالنسبة لليسار بالتحديد، بل لعله ورش منقذ يجعل خطابه أقرب إلى الناس وإلى الواقع وتحالفاته أكثر انسجاما مع شعاراته ومطالبه الجوهرية. إن المعارك الخاطئة كلفت اليسار العربي كثيرا من استقلالية الفكر والحركة، فمعركة اليسار الأولى والمعلنة ، أي السعي نحو عالم أكثر عدلا، قد تكون أو قد تصبح، بغض النظر عن الاختلاف حول سبل تحقيق الهدف، معركة كثير من الأطياف الفكرية والسياسية الأخرى ولو في الحد الأدنى ، فيما باقي المعارك قد تتحول إذا ما تجاوزت حدودها التكتيكية المقبولة أخلاقيا ، إلى محرقة لليسار أو لما تبقى منه على الأقل.