يسميها قانون المالية حسابات خاصة وتسميها الصحافة وهيئات المجتمع المدني «صناديق سوداء»، يبررها القائمون على الشأن العام ويرفضها المجتمع الحقوقي، إنها الصناديق الخاصة/السوداء التي أربكت دعوات محاربة الفساد التي تطلق بين الفينة والأخرى هنا وهناك. هذه الصناديق التي تفوق –حسب قانون المالية - 80 صندوقا لا تقدم عنها الحكومة أي بيانات أو توضيحات لا من حيث مداخيلها ولا على مستوى طرق وجهات صرفها، وتستمر تلك الصناديق في تعميق الهوة بين مطالب الاصلاح ومسلسل الفساد. إن قصة تبادل الهدايا بين وزير المالية السابق والخازن العامل التي كشفت عنها الصحافة ويدفع ضريبة التبليغ عنها موظفين بوزارة المالية، ماهي إلا الشجرة التي تخفي غابة الفساد المستشري بالإدارة المغربية. فمعلوم أن المنح التي تبادلها المسؤولان المغربيان لم تكن خاضعة للموازنة العامة وإنما تمت من خلال الصناديق الخاصة/السوداء التي تتوفر عليها وزارة المالية. لهذا طالب المجتمع المدني وبعض الهيئات والشخصيات السياسية بالقطع مع مع هذا التدبير السيء لمالية المغاربة الذي لايعدو أن يكون «بابا خلفيا» يدر على أصحابه الكثير من أموال الشعب، فجزء من أموال هذه الصناديق يذهب في شراء الذمم والتأثير على السير العادي للمؤسسات، وجزؤه الآخر يصرف بطرق ملتوية ودون رقابة. حسبا علمنا، فإن ما يطلق عليه الصناديق الخاصة غير الخاضعة لمراقبة البرلمان، لاوجود لها في أي دولة تحترم القانون وتحرص على أموال دافعي الضرائب، لأن دولة القانون تتناقض ووجود أكثر من 100 مليار درهم سائبة (ثلث الميزانية العامة للدولة) تعرف بعض مصادرها ولا تعرفها مصاريفها، في الوقت الذي تشكو فيه الحكومة من عجز في الموازنة وتضطر للاقتراض الخارجي. فقانون المالية من سماته الشمول والشفافية والوحدة، الشيء الذي لن يتحقق بعدم إدراج مبالغ الصناديق الخاصة/السوداء ضمن الموازنة العامة، وإنما ينبغي لتحقيق الحكامة المالية أن لا يجمع ولا يصرف ولا يحصل أي نقد مالي إلا في إطار وحدة الميزانية. (كما صرح بذلك عبد الله بوانو رئيس الفريق النيابي للحزب المتزعم للأغلبية). إن مداخيل الصناديق الخاصة/السوداء لاتأتي من فراغ أو يُتصدق على المغاربة بها، وإنما هي نتاج عمليات مالية يقوم بها أبناء الشعب المغرب من قبيل رسوم الطرق، الغرامات، الطوابع، رسوم النظافة، تذاكر المستشفيات، رسوم دخول الأماكن السياحية، مواقف السيارات، الدمغات الحكومية، الضريبة على القيمة المضافة، رسوم التقاضي، الرسوم الدراسية بالكليات والمعاهد،ورسوم تأمين استخراج اللوحات المعدنية للسيارات..الخ. وهذه المداخيل من المفروض أن تدرج ضمن الميزانية العامة وتخضع لمسطرة المراقبة العادية أو القضائية وينالها قانون التصفية. والواقع أنه حتى زعماء الأغلبية البرلمانية لايعرفون أين تصرف تلك الأموال ولا من أين تأتي، فمن يسمع أحد نواب الأمة يقول «لدينا ميزانية عامة، نعرف نفقاتها ومصادرها، لكن هناك بعض الصناديق نعرف بعضًا من كيفية تحصيلها، غير أننا لا نعرف كيفية صرفها»، يدرك جيدا حجم الكارثة التي لحقت –ومستمرة – بالاقتصاد الوطني الذي يشكو من الأزمة والفساد. ولإعطاء لمحة عن حجم الفساد الذي تسهم فيه الصناديق السوداء، يكفي أن نعرف أن 46 في أموالها تذهب إلى الصندوق الخاص بوزارة الداخلية أي أكثر من 4000 مليار سنتيم. فهذه الوزارة تتوفر على نحو 10 حسابات خصوصية/ صناديق سوداء أهمها صندوق حصص الجماعات المحلية من الضريبة على القيمة المضافة الذي يسيطر على 30 مليار درهم بدون مراقبة ولا نص تنظيمي يبين معايير توزيعها على مختلف الجماعات المحلية المغربية. وليست وزارة الداخلية وحدها من يتوفر على صناديق خاصة/سوداء وإنما هناك وزارات أخرى تمتلك مثل تلك الصناديق، كوزارات الخارجية والعدل والمالية، فالأخيرة توجد بها أربعة صناديق مفتوحة لدى الخزينة من قبيل الحساب الخاص/الأسود بالودائع لدى الخزينة، والذي كان يتلقى منه مزوار تعويضاته، والصندوق الخاص بالجمارك، والذي تودع فيها الغرامات الجمركية، والحساب الخاص لاستبدال أملاك الدولة الذي يحقق ما يفوق 10 ملايير درهم، ويقوم بتدبير أخطر ممتلكات الدولة وهي رصيدها العقاري، ويعرف اختلالات بالجملة (حسبما صرح به عبد اللطيف بروحو البرلماني عن حزب رئيس الحكومة لجريدة أخبار اليوم). لقد كان من المفروض أن يحكم المجلس الدستوري – لو توفرت فيه ذرة من الديمقراطية- بعدم دستورية القانون التنظيمي لقانون المالية وخاصة الفصول والمواد التي تشرعن وجود حسابات خصوصية ضمن تكاليف الدولة وماليتها. فالدستور ينص على ربط المسؤولية بالمحاسبة وأوجد، من أجل تفعيل الحكامة الجيدة، 10 مؤسسات دستورية للنهوض بهذه المهمة، في الوقت الذي يأتي فيه القانون التنظيمي لقانون المالية بنصوص تشجع على الفساد المالي والسياسي أيضا، فمجموعة من أموال تلك الصناديق تذهب في اتجاهات غير قانونية وتستغل في المحاباة والتأثير السياسي والانتخابي وشراء الذمم. إن قانون المالية المغربي الذي لم يصادق عليه إلا عدد قليل من أعضاء مجلس النواب قبل أن ينال موافقة مجلس المستشارين (غير الشرعي) كما ينص على ذلك الدستور، هو أهم قانون يرهن الحياة الاقتصادية للمغاربة وبالتالي كان من المفروض أن ينال أكبر عناية من قبل السادة النواب وأن لا يعرض على مجلس المستشارين لفقدانه الشرعية القانونية، فقانون المالية بما هو القانون الذي يحدد طبيعة و كمية المبالغ المخصصة لموارد و أعباء الدولة، من سماته، كما أسلفنا؛ مبدأ السنوية أي أن يغطي مالية سنة كاملة بما يتيح للبرلمان مراقبة الحكومة ومحاسبتها؛ ثم مبدأ وحدة المالية الذي يعني وضع بنود الإيرادات و النفقات في خطة واحدة، وبحيث يمنع على الحكومة القدرة على إخفاء العجز ويتيح للبرلمانا المجال لإعطاء الرأي حول أولوية النفقات، بمعنى أن مبدأ وحدة الميزانية يتنافي ووجود أي ميزانية خارج الميزانية العامة التي يناقشها البرلمان ويصادق عليها ويحاسب الحكومة على طرق نفقتها سواء أثناء السنة المالية أو من خلال قانون التصفية؛ أم المبدأ الثالث فيخص توازن المالية كي تتساوى جملة الإيرادات العامة مع جملة النفقات العامة. فما يقدمه لنا هذا العرض السريع لماهية ومبادئ قانون المالية، هو أن الديمقراطية السياسية لا تتأتى في غياب ديمقراطية التشريع وخاصة التشريع المالي، لأن الدول الديمقراطية تنظر إلى المسألة المالية باعتبارها قضية أمن قومي، فلقد سئل الرئيس الأمريكي السابق «جروج بوش» عن الآلية التي استطاع من خلالها تخفيض نسبة الجريمة خلال ولايته فأجاب: «حققت ذلك عن طريق الاقتصاد، إذ أن تحسين الوضع الاقتصادي يشجع على الزواج والاستقرار ومن ثم حرص الشخص على مستقبله الأسري والمجتمعي». فالوضع الاقتصادي إذن أساسي لكي ينتظم المواطنون ويطمئنوا على حقوقهم جميعها، وهذا لن يتحقق بوجود حسابات خاصة وصناديق سوداء خارج مراقبة نواب الشعب وبعيدا عن أي محاسبة. لقد تنبه إلى هذه المسألة (الحسابات الخاصة) أغلب التشريع الدستوري الحديث ومنه الدستور المصري الذي وقع الرئيس مرسي على إنفاذه، إذ جاء في هذا الدستور (المروفوض من قبل التيارات المدنية) «يجب أن تشمل الموازنة العامة للدولة كافة إيراداتها ومصروفاتها دون استثناء . ويعرض مشروعها على مجلس النواب قبل تسعين يوما على الأقل من بدء السنة المالية، ولا تكون نافذة إلا بموافقته عليها، ويتم التصويت عليه بابا بابا.(المادة 117) ». فهذا النص لم يأتي من فراغ وإنما كان نتيجة لاستقراء وضع ما قبل ثورة 25 يناير حيث كانت ملايير الدولارات تذهب في اتجاه الفساد والرشوة تحت مسمى حسابات خاصة. أم المشرع الدستوري المغربي فإنه لم يقوَ على تضمين الدستور –الذي يثار حوله مجموعة من النقاش – إجراءات اقتصادية من شأنها تجفيف منابع الفساد المالي والاقتصادي، كما لم يتدارك المشرع القانوني الأمر لكي يمنع تواجد الحسابة الخاصة/السوداء بمالية المغاربة، إذ أرجأ ذلك إلى سنة 2015 التي يعلم الله ماذا سيحصل قبلها. لايمكن، بأي حال من الأحوال، أن يفهم من حديثنا عن الصناديق السوداء أنها وحدها من تنخر مالية المغاربة وتستنزف ثرواتهم، وإنما سلطنا عليها الضوء لكونها نموذج مصغر من نماذج الفساد الاقتصادي. وإلا فإن الأمثلة عن مسالك أخرى يتم من خلالها إهدار المالية العامة متعددة ومختلفة، بدأ من تناسل مجموعة من المؤسسات التي لا يرجى منها خيرا عدا الإسهام في الفساد (مجلس المستشارين نموذجا) ومرورا بمجموعة من المؤسسات «الشريفة» التي يعلم الله وحده ثم القائمين عليها كيف تصرف مواردها وإلى أي جيب من الجيوب هو مآلها (المكتب "الشريف" للفسفاط، وزارة الأوقاف، المناجم ....)، وليس انتهاء بالتفاوت الطبقي القائم على مستوى الأجور والتوزيع غير العادل للثروات، فضلا عن استمرار الجمع بين الثروة والسلطة. وحسننا فعل المشرع الدستوري المصري عندما نص في مسودة الدستور على أنه «يحدد القانون المعاملة المالية لرئيس الجمهورية؛ ولا يجوز أن يتقاضى أى مرتب أو مكافأة أخرى، ولا أن يزاول طوال مدة توليه المنصب، بالذات أو بالواسطة، مهنة حرة أو عملا تجاريا أو ماليا أو صناعيا، ولا أن يشترى أو يستأجر شيئا من أموال الدولة، ولا أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله، ولا أن يقايضها عليه، ولا أن يبرم معها عقد التزام أو توريد أو مقاولة. ويتعين على رئيس الجمهورية تقديم إقرار ذمة مالية، عند توليه المنصب وعند تركه وفى نهاية كل عام؛ يعرض على مجلس النواب. إذا تلقى بالذات أو بالواسطة هدايا نقدية أو عينية؛ بسبب المنصب أو بمناسبته، تؤول ملكيتها إلى الخزانة العامة للدولة». وبكلمات، يمكن القول أن مسلسل الفساد يبدأ من الحسابات الخاصة/السوداء ولا ينتهي عند غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة وعدم الجمع بين الثروة والسلطة، كما أن مسلسل الإصلاح يبتدئ بمنع الحاكم من الجمع بين الثروة والسلطة وينتهي مع توحيد ميزانية الدولة والقطع مع الباب الخلفي للفساد ألا وهو الصناديق السوداء. باحث في العلوم السياسية