انتهى التصويت على الدستور المصري، وأُعلنت النتائج، وانتشى الرئيس مرسي وجماعته بقبول الشعب المصري للدستور وموافقته عليه. وبمعنى آخر، يعتبر الإسلاميون المتحالفون مع السلفيين أن صناديق الاقتراع قالت كلمتها، وعلى المعترضين أن يقبلوا بحكم الشعب إذا كانوا يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين؛ بل لقد ذهب "الإخوان"، قبل إعلان النتائج، إلى القول بأنه يكفي أن يحصل الدستور على نسبة النصف زائد واحد لكي تكون العملية ديمقراطية وفوق الشبهات، ولكي يكون أصحاب الرأي الآخر في حكم الفئة الضالة. إن مثل هذه النسبة تكون مطلوبة في التصويت على الأشخاص والبرامج، إلا أن الإشكالية الدستورية، في منطق الانتقال، تكون أكثر تعقيداً. صحيح أن التصويت ضروري لحسم الموقف من الدستور، ولكن هذا التصويت يكون تتويجاً لعملية توافق وطني بين القوى المتصارعة؛ إذ يجب مبدئياً، من الزاوية السياسية، أن يتحقق حول النص الدستوري أكبر توافق ممكن قبل عرضه على الاستفتاء، استجابة لمتطلبات الانتقال؛ ويجب، من الزاوية الأخلاقية، أن تُحترم الالتزامات التي تقدم بها الماسكون بالسلطة قبل انتخابهم. لكن عدداً من الإسلاميين، الذين يقبلون - ظاهرياً على الأقل – الاحتكام إلى الديمقراطية، يختزلونها في حكم الأغلبية فقط، ويتجاهلون كون الديمقراطية هي حكم الأغلبية دون المس بحقوق الأقلية. وعندما يصبح هؤلاء الإسلاميون في موقع الأغلبية يعتبرون أن احترام حقوق الأقلية هو انتقاص من حقوق الأغلبية، بينما المطلوب ليس هو أن نمنح الأقلية حق اغتصاب حقوق الأغلبية، بل أن نمنح الأقلية الحقوق المعترف بها كونياً على أنها "حقوق الأقلية". وجوهر حقوق الأقلية يدور بصورة عامة حول فكرة تمكين الأقلية من الشروط التي تسمح لها يوماً ما بأن تتحول إلى أغلبية. والحال أن الأصوليين في العادة يعتبرون الأغلبية ثابتة لا تتغير. لقد تعامل مرسي وجماعته مع قضية التصويت على الدستور كنص مُؤَسِّسٍ، بنفس الطريقة التي يُتعامل فيها مع التصويت على الأشخاص أو التصويت على القوانين العادية، وهي الطريقة التي تؤدي عملياً إلى تغيير الدستور كلما تغيرت الأغلبية، أي أن يصبح الدستور، مثل أي نص عادي أو نقطة في البرنامج الاقتصادي والاجتماعي، خاضعاً للتغيير المستمر بحسب تغير الخارطة الانتخابية. الدستور في الأصل، يُكتب ليدوم، مع وجود حالات يتم فيها الجنوح عن الأصل، لاعتبارات وضرورات خاصة. ولا يمكن لطرف سياسي واحد أن يستقل بوضع الإطار العام لممارسة كافة الأطراف للصراع السياسي، ولا يمكن لفريق أن يرسم قواعد التباري المفروضة على الجميع. لماذا ركب مرسي وجماعته رأسيهما، ورفضا انتهاج سبيل التوافق في وضع مشروع الدستور، وفَضَّلاَ الانفراد بطرحه على الاستفتاء؟ ولماذا تصرفا بشكل مخالف لمنطق الانتقال؟ ولماذا نكث مرسي الوعد الذي قطعه على نفسه علانية في السابق والقاضي بتأمين توافق وطني "من الكل" قبل عرض المشروع على الاستفتاء؟ ولماذا أحلَّت جماعة الإخوان لنفسها ما كانت تحرمه على النظام السابق وخططت لمهاجمة المحتشدين حول مقر الرئاسة ومحاولة إجلائهم بالقوة من مكان الاحتشاد، وهو ما كان يدخل اصطلاحياً في مفهوم "البلطجة" حين كان يمارسه نظام مبارك؟ هل يعود السبب في كل هذا إلى قلة الخبرة أم إلى ضعف الوعي والإدراك السياسيين أم إلى العمى الإيديولوجي أم إلى ردود الفعل المتسرعة والسقوط في دوامة التحدي وهاجس إثبات الذات واستعراض القوة؟ أم أن هناك عوامل أخرى، لها علاقة بالبنية التكوينية لذهنية الحركات الإسلامية، هي التي تفسر ما جرى؟ يمكن، في هذا الصدد، أن نَشْتَمَّ في سلوك مرسي وجماعته حضور ظاهرتي الاستعلاء والتقية. والاستعلاء شَكَّلَ لعقود طويلة ثابتاً في منهج تفكير الحركات الإسلامية حسب ما كان قد رسمه دستور تلك الحركات، وهو كتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب، الذي يعتبر أن الاستعلاء "يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص سواء"، وهو الاستعلاء "الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية، ولا عرف اجتماعي ولا تشريع باطل، ولا وضع مقبول عند الناس ولا سند له من الإيمان". وبناء على ذلك، فإن الحركات الإسلامية لم تكن تعتبر نفسها مثل بقية الحركات السياسية، يسري عليها ما يسري على الحركات السياسية، وتخضع لما تخضع له هذه الحركات من ضوابط والتزامات وحدود. الحركات الإسلامية كانت تعتبر نفسها في وضع أعلى وأرقى مقارنة بالحركات الأخرى، فهي محملة برسالة سماوية وتحمل على عاتقها مسؤولية إنجاز مهمة ربانية، فالحركات السياسية تعكس إرادة البشر والحركات الإسلامية تعكس إرادة الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن تتساوى إرادة البشر مع إرادة الله. وكلما أُتيحت للحركات الإسلامية فرصة المطالبة بهذا الوضع المتفوق أو الاستفادة منه إلا واعتبرت ذلك رجوعاً إلى الأصل وإقراراً بِحَقٍّ، ورفضت أن نُطالبها بما نطالب به الآخرين، فهي تتميز بنوع من السمو المترتب عن سمو الشريعة. وكلما تقدمت الحركات الإسلامية على طريق اعتبار نفسها حركات عادية، لها رأي مثل بقية آراء الآخرين، وكلما تخلصت من هذا الاستعلاء فإنها تكون قد تحررت من طابعها الأصولي وانفتحت على أسس التفكير المدني الديمقراطي، وهو ما يظهر أن الحركة الإسلامية المصرية لم تبلغه بعد. إن قبول الحق في الاختلاف يقوم بالضرورة على اعتبار أن رأي الآخرين لا يقل قيمة عن رأينا، والتجاهل المثير الذين تعامل به إسلاميو مصر مع آراء معارضيهم، في لحظة يُفترض أنها تأسيسية، يفضح استمرار خضوعهم للنزعة الاستعلائية، ويؤدي إلى شعور هؤلاء المعارضين بالخذلان، لأن أكثر هؤلاء المعارضين أبلى البلاء الحسن في معركة إسقاط رأس النظام، وتَمَسَّكَ بروح الإقدام في لحظة أبدى فيها "الإخوان" الكثير من التردد، ولأن مرسي وعد بالتوافق وأخلف الوعد. أن يكون السيد مرسي قد قدَّم وعداً صريحاً في لحظة "ضعف" كان يبحث فيها عن أصوات الناخبين، ثم تخلص منه بكل سهولة في لحظة "قوة" بعد انتخابه رئيساً، يذكرنا بنهج التقية الذي حولته بعض الحركات الإسلامية إلى نهج قار في العمل. والتقية تعني أن يُظهر الفرد عكس ما يُضمر، وأن يجاهر، مثلاً، برأي وهو غير مقتنع به. واستندت مشروعية التقية إلى غايتها وهي درء الضرر المؤكد حلوله بالشخص لو أعلن عن حقيقة رأيه واعتقاده. واللجوء إلى التقية يخضع لقيود عدة، ويهدف إلى تجنيب المسلم الأذى والاضطهاد الذي سيوقعه عليه الكفار إذا لم يتظاهر بمسايرتهم. ولكن الشيعة بالغوا في اعتماد التقية وسوغوا استعمالها خارج الدائرة الضيقة التي حددها أهل السنة والجماعة، وذلك بسبب الظروف التاريخية وما حلَّ بالشيعة من محن في العصرين الأموي والعباسي. ووجد عدد من الحركات الإسلامية المعاصرة في التقية مبرراً شرعياً لممارسة الازدواجية بين الخطاب والممارسة، وتغيير المواقف باستمرار، وعدم الوفاء بالوعود والالتزامات، انطلاقا من اعتبار قار ودائم وهو أن تلك الحركات مهددة باستمرار وأن خصومها يتربصون بها الدوائر في كل وقت وحين ويتآمرون عليها، ولهذا جاز أن تستغفلهم حتى ولو كانوا مسلمين، لأنهم يوالون غير المسلمين، وتراوغهم، وتُجلي أمامهم خلاف ما تُضمر، وتسايرهم وتتظاهر بموافقتهم في ما يقولونه، ثم تقلب ظهر المجن عند احتيازها أسباب المناعة والقوة والنفوذ. لقد غدت التقية لعبة لذيذة وسهلة، وقاعدة لجلب المنافع وليس فقط لدرء الأخطار، وأصبحت تُستعمل حيال الجميع، وتمنح لقادة العديد من الحركات الإسلامية مجالاً واسعاً للمناورة، وإرضاء كل الأطراف، وضمان تأييد مريديها وخصومها في نفس الآن. كل الحركات السياسية تمارس، بهذا القدر أو ذاك، تاكتيكات متعارضة أحياناً مع مبادئ الصدق والصراحة في القول والوفاء بالعهود، وتلجأ إلى إخفاء النوايا والتقلب في المواقف وإنكار الحقيقة ومخادعة الرأي العام أو خصومها. ولكن بعض الحركات الإسلامية صاغت، عن طريق مقولة التقية، نظرية تجعلها تمارس مثل تلك التاكتيكات بنوع من الدعة والانبساط وراحة الضمير، وبلا عُقَدٍ، وتبحث عن وسائل تدبير التناقض الذي قد يظهر أحياناً بين استعمال بعض أوجه الاستعلاء واستعمال بعض أوجه التقية. قراءة الحالة السياسية المصرية، اليوم، قد تسمح بالخروج ببعض الخلاصات الأولية : - التطور الذي طرأ على الحركات الإسلامية عموماً، لازال بطيئا. ورغم أن الوضع يختلف من بلد إلى آخر، فإن أخطاء مرسي قد يكون لها انعكاس سلبي على وضع حركات إسلامية حتى خارج مصر. مع الإشارة إلى أن أخطاء جسيمة ارتُكبت أيضاً في حق الإسلاميين المصريين مثل الاعتداء على مقراتهم؛ - الانسياب الذي طبع مسلسل إسقاط نظام مبارك لا يوازيه انسياب في مسلسل الانتقال. هذا الأخير يبدو أكثر تعقيداً وأشد تركيباً مما كان يوحي به مشهد بداية الثورة. ومع ذلك، فالثورة كانت ضرورية، والمرحلة السابقة عليها لا تستحق أن يحن إليها شعب مصر العظيم. لقد خاض هذا الشعب فصلاً ملحمياً من فصول معركة الحرية والكرامة، وتنتظره فصول أخرى؛ - الثنائية الحزبية أو السياسية التي يتأسس الانتقال الديمقراطي، في الكثير من الحالات، على توافق طرفيها، ستجري –ربما- في بلداننا بين قطب إسلامي، من جهة، وقطب علماني يضم باقي الأطياف من ليبراليين ويساريين وقوميين وتعبيرات سياسية إثنية أو ثقافية، من جهة أخرى، وسيتطلب الأمر قيام المعتدلين هنا وهناك بلعب دور ريادي، وضرورة مراكمة القطب الثاني للقوة المطلوبة لإحداث التوازن المنشط لدينامية الانتقال.