هو حكيم وواقعي قرار إعادة الدفء إلى العلاقات الدبلوماسية المغربية بالدولة العبرية.. إنها مبادرة تاريخية ستدعم البحث عن السلام العادل في الشرق الأوسط، وستشجع المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية بدل لغة العنف وإزهاق الأرواح, بل هي مبادرة بطعم منصف للمملكة في وحدتها الترابية بإقرار الإدارة الأمريكية سيادة المغرب على صحرائه وعزمها فتح قنصلية بمدينة الداخلة. وبعيدا عن الخطاب الديماغوجي وقريبا من لغة الاعتدال, فإن قرار المملكة, كما حرص الديوان الملكي في بلاغه التأكيد عليه, لن يمس، "بأي حال من الأحوال، الالتزام الدائم والموصول للمغرب في الدفاع عن القضية الفلسطينية العادلة، وانخراطه البناء من أجل إقرار سلام عادل ودائم بمنطقة الشرق الأوسط". وهذا أساسي لقطع الطريق على أي تأويل مغرض من أية جهة داخلية أو خارجية لا تزال تستغل القضية الفلسطينية لتحقيق مآرب إيديولوجية وخدمة أجندات لا تخدم تطلعات الشعوب إلى السلام. فالمغرب سيسير على نفس نهج الفلسطينيين أنفسهم ودول الجوار كمصر والأردن والإمارات. وكان واضحا، كما ورد في بلاغ الديوان الملكي, بتأكيده أنه "اعتبارا للدور التاريخي الذي ما فتئ يقوم به المغرب في التقريب بين شعوب المنطقة، ودعم الأمن والاستقرار بالشرق الأوسط، ونظرا للروابط الخاصة التي تجمع الجالية اليهودية من أصل مغربي، بمن فيهم الموجودون في إسرائيل، بشخص جلالة الملك", فإنه سيتخذ إجراءات؛ منها "تسهيل الرحلات الجوية المباشرة لنقل اليهود من أصل مغربي والسياح الإسرائيليين من وإلى المغرب؛ واستئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الدبلوماسية في أقرب الآجال؛ وتطوير علاقات مبتكرة في المجال الاقتصادي والتكنولوجي. ولهذه الغاية، العمل على إعادة فتح مكاتب للاتصال في البلدين، كما كان عليه الشأن سابقا ولسنوات عديدة، إلى غاية 2002". إنه الاعتدال والواقعية التي ميّزت مواقف دبلوماسية المملكة المغربية. وذلك يحسب للموقف الرسمي المغربي الذي تأسس منذ البداية على الانطلاق من دعم القضية الفلسطينية والتضامن اللامشروط مع الشعب الفلسطيني من جهة، ومن جهة أخرى، الاعتدال والواقعية في التعامل مع إسرائيل كأمر واقع. واليوم مع التغيرات الجيوإستراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي، كان لزاما ضرب عصفورين بحجر واحد؛ وهو الانضمام إلى دعاة السلام وانتزاع قرار تاريخي من الإدارة الأمريكية للاعتراف الواضح والرسمي بمغربية الصحراء وما يشكله ذلك من ضربة قاضية وقاصمة لظهر "البوليساريو" والمؤيدين لمشروعها الانفصالي, بما يعنيه ذلك من تعبيد الطريق لإنهاء النزاع المفتعل في الأقاليم الجنوبية للمملكة دون التفريط في البحث عن سلام عادل للقضية الفلسطينية كقضية إنسانية عادلة. والثابت أن للدولة المغربية موقفها الرسمي حول السلام المشروط باتفاق يرضي الفلسطينيين؛ وهو ليس بالضرورة موقف بعض الأطراف السياسية المغربية من بقايا الأنظمة الاستبدادية المغلفة بالإيديولوجية القومية العربية أو تيارات الإسلام السياسي التي ظلت ترفض دوما ما تسمّيه "تطبيعا", والتي تستغل القضية الفلسطينية ل"تضبيع" قواعدها ممن تسعى إلى تعبئتهم بخطابها الإيديولوجي لخدمة أجندها في الداخل والخارج. الموقف الرسمي المغربي من النزاع في الشرق الأوسط وربط العلاقات مع إسرائيل من عدمه هو أساسا مجال سيادي وحصري لرئيس الدولة أمير المؤمنين, ولا يحدده موقف أي تنظيم سواء من اليسار القومي أو تيارات الإسلام السياسي أو غيرها؛ فالرباط لم تجمد علاقاتها مع إسرائيل سوى بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 2000, ومنذ 23 أكتوبر من السنة نفسها، في عهد نتنياهو، تم إقفال مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط ومكتب الاتصال المغربي بتل أبيب, بعد أن ربطت بينهما علاقات على مستوى منخفض عام 1993 بعد التوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين وإسرائيل, والذي كان تتويجا لمسار انطلق من لقاء إفران بين الراحلين الملك الحسن الثاني وشمعون بيريز، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بتاريخ 22/07/1986, ولعب فيه الملك الراحل دور الوسيط في نزع فتيل المواجهات الدامية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وحتى في أوج الصراع العربي – الإسرائيلي وغليان الشارع المغربي بفعل التجييش المستمر له باستغلال النزاع, ظل خيط رفيع يربط بين الرباط وتل أبيب، ولم ينقطع يوما؛ بل بقي التواصل والتبادل الثقافي والإنساني وحتى التجاري والاقتصادي قائما وإن بشكل غير رسمي. وحتى على المستوى الدبلوماسي، فبعد لقاء 2007 بباريس بين مسؤولي البلدين, ذكر تقرير للقناة "13" الإسرائيلية أنه على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في شتنبر 2018، التقى بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بناصر بوريطة, وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج. ويضيف التقرير أن اللقاء جاء نتيجة لقناة الاتصالات السرية التي يشرف عليها مئير بن شبات، مستشار نتنياهو للأمن القومي ورجل نتنياهو الخفي المكلف بنسج علاقات وطيدة مع أنظمة الشرق الأسط وشمال إفريقيا والمعروف باسم ب"معوز" (الحصن)، وبوساطة رجل الأعمال اليهودي المغربي ياريف إلباز، المقرب كذلك من صهر ترامب ومستشاره، جاريد كوشنر. وسواء في عهد الملك الراحل أو في عهد الملك محمد السادس، ظل المغرب يدعم البحث عن السلام العادل في الشرق الأوسط، ويشجع المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية داعيا الجانبين دوما إلى الاعتدال. وعلى الرغم من أن المغرب أرسل تجريدة إلى سيناء والجولان للمشاركة في حرب أكتوبر 1973، فإنه ظل يشجع لغة الحوار والتفاوض، وكان وراء لقاءات سرية عبّدت اللقاء بين الإسرائيليين والمصريين، والتي أفضت إلى إبرام اتفاقية "كامب ديفيد"، والتي انتقدها الراحل الحسن الثاني بشدة لأنها لم تنهِ النزاع في شموليته. وعلى الرغم من ذلك، فإنه ساهم من جديد في إنضاج شروط لقاء "أوسلو" بين الفلسطينيين والإسرائيليين سنة 1993، وهذا ما صرح به حينها كل من الراحلين ياسر عرفات وشيمون بيريز. ليست إعادة العلاقات مع إسرائيل هدفا في حد ذاته؛ فلغة المصالح السائدة في العلاقات الدولية اليوم لا تعترف بالعداوة الدائمة ولا الصداقة الدائمة بل بالمصلحة الدائمة (أو نظرية الواقعية السياسية حسب الأمريكي هانز مورغنتاو). ولا يمكن أن تكون مصالح الدول والشعوب إلا مع السلام ونبذ الحروب لمحاربة الجوائح والفقر والأزمات الاقتصادية المتوالية. لهذا، فإن عودة الدفء إلى العلاقات بين الرباط وتل أبيب هو قرار حكيم وضرورة واقعية وحتمية للسلام العادل والشامل.