عاد المكبوت الثقافي والتاريخي لأمريكا القرن الواحد والعشرون بعد نهاية عصور من الاستعباد والاسترقاق للسود ، أربعمائة سنة عام على جلب أوائل العبيد إلى ولاية فرجينيا ، صور من مسلسل "جذور" وشخصية كونت كينتي لازالت عالقة في أذهاننا عن الاقتياد القسري من إفريقيا نحو العالم الجديد للعمل في مزارع البورجوازية. الرجل الأبيض واحد عندما يصاب بالهيجان والحقد الأعمى على كل من يحمل بشرة سوداء، تغلي في عروقه موجات من العنصرية المستبطنة في اللاشعور والمقيتة التي عفا عنها الزمن، تاريخ السود في أمريكا من بداية حركة التمرد للعبيد في 1831 والحرب بين الشمال والجنوب، والتعديل الدستوري في 1868، الذي منح المواطنة الكاملة للأمريكيين الأفارقة ، وذلك الحلم الذي راود مارتن لوثر كينغ أن تصبح أمريكا خالية من العنصرية ، وصعود أوباما أول رئيس أمريكي من أصل إفريقي، كرونولوجيا الأحداث والوقائع تدل على مخاض الولادة العسيرة للمواطنة الكاملة في مجتمع يعتقد فيه البيض أنه خاص بهم ، والعالم الجديد الذي كان يقطنه الهنود الحمر لا تستحقه هذه الكائنات لان الرجل الأبيض الآتي من أوروبا هو الذي أنجز النهضة وشيد الحضارة، وبالتالي يعتبر السود، وباقي الأقليات بشر من الدرجة الثانية، جورج فلويد المواطن الأسود، وأمام مشاهد واقعية رأى العالم كيف تعاملت معه الشرطة باحتقار، صورة الشرطي الذي أرغمه على الجلوس والنزول من السيارة، والحديث معه بكلام استعلائي وعنصري، تحولت الصورة من الاعتقال ووضع الأصفاد لتمريغه في الأرض والدس عليه، اختنق تحت رجل شرطي عديم الرحمة والمسؤولية، إنه المكبوت الثقافي والتاريخي الذي يسري في عروق الرجل الأبيض ، إنها الدونية واحتقار الإنسان في لونه وأصله، وأمريكا منشغلة بالعالم، وحروبها الاقتصادية خارج حدودها، نسقها السياسي يعاني من الضعف، وصعود الشعبوية، وأصحاب المصالح من الشركات العملاقة، والقوى المتحكمة، والموجهة للقرارات السياسية، داخلها يعاني من العنصرية والتفاوت الاجتماعي، نواقص ديمقراطية تعتري نظامها ، والدليل مؤشرات عالمية في التصنيف، نسق سياسي تغذيه القنوات الإعلامية الموالية للشركات والقوى المستفيدة ، وتغذيه القوى المحسوبة على اليمين المتطرف، هوامش المدن تعاني من الفقر والإقصاء، وأقليات تصرخ من أجل حياة كريمة، سيطرة أمريكا على النوادي العالمية، والتواجد بقواعدها في العالم ، سياسة خارجية غير منصفة وداخل يكابد ويلات الأزمات . ليس جورج فلويد إلا النقطة التي أشعلت الأزمة، وكشفت عن هشاشة السياسة الداخلية الأمريكية، مكر التاريخ كما يسمه هيجل، سيحول فلويد لبطل قومي يعيد ترتيب البيت الداخلي، ويترك المواطن الأمريكي يتأمل في مسار السياسة الداخلية والخارجية، ومن الأزمة يخرج أبطال جدد، ويتلون التاريخ بألوان أخرى، أرض الأحلام تعصر نفسها في أمل فهم أسباب أزماتها الموجودة أصلا في عقلية الرجل الأبيض، وحمولته الفكرية والثقافية، المسيحية والقيم البروتستانتية كما يجزم على ذلك صمويل هنتغتون. شرارة الانتفاضات أخرجت الأمريكي الأسود والأبيض والأقليات في كل المدن الأمريكية ضد سياسة لا إنسانية، حوادث تكررت في السنوات الأخيرة، والحوادث التي تصنع من الأحداث تاريخا لا تعني أنها وليدة الصدفة، والتغيير يأتي بشكل مفاجئ، بل هناك حوادث كثيرة لم تساهم في خروج الأمريكيين، كل الأسباب الموضوعية من أزمات ومشاكل تراكمت وترسخت في الوعي الاجتماعي، مضمونها عدم الرضا عن السياسة الأمريكية، وعن حفنة من رجال السياسة، والخبراء وأصحاب الشركات الكبرى التي توجه عالم السياسة نحو أهداف لا تعود بالمصلحة على الشعب الأمريكي بأكمله، الذي ناضل فيه الشرفاء من أجل وطن للجميع . فعندما شاهد العالم رجل يختنق ويقول بصريح العبارة أنه لا يستطيع التنفس، تناسلت في الأذهان عدة أسئلة عن أمريكا العولمة والحرية، وأمريكا الديمقراطية وحقوق الإنسان، كان هذا البلد مقسم بين الأغنياء والفقراء، بين السود والبيض وباقي الأقليات، وكأنهم بشر مجرد أدوات لاستمالتهم للانتخابات الرئاسية، ليسوا شركاء في الوطن أو هكذا يتجلى المشهد عندما نقرأ في أبعاده ، من دولة يسودها القانون ودستور واضح لدولة تعنف بدون سند قانوني. فمن الإنصاف أن يعاقب كل فاعل يرتكب هذا النوع من الجرائم العنصرية في حق المواطن الأعزل. الربيع الأمريكي يبدأ بصيحة جديدة، ونداء آلاف الناس العودة للقوانين التي تعاقد عليها الناس، للسياسة المنصفة التي تعتبر كل الناس شركاء في وطن واحد يتسع للجميع، من أمريكا إلى كندا، المطالب واحدة، المواطنة والعدالة . الرجل الأبيض واحد في جنوب إفريقيا واستراليا وأمريكا، نظام الميز العنصري ضد الأكثرية، والأقلية في أمريكا ضد الأفارقة واللاتينيين والسكان الأصليين ، هذا النوع من التعامل يعمق الشرخ بين الشعب والدولة ، ويكشف الوجه الخفي لأمريكا في الداخل ويهدد وحدتها، بعدما ساءت صورتها في الخارج. نقلت عدسات الكاميرا من أمريكا موجة الغضب العارمة والاحتجاجات في كل المدن، ونزل الناس للشوارع، مواجهة الشرطة، وتخريب الممتلكات ومواجهة القوة بنفس آلياتها، والقضية هنا لا تتعلق فقط بالأسود، بل مناهضة الفاشية والعنصرية، والعودة للشعارات والمبادئ التي تأسست عليها أمريكا، فعندما يتهم ترامب منظمة " أنتيفا"، ذلك يعني تشويه لحقيقة الاحتجاجات، منطق المنظمة الرفض لسياسته الداخلية، الرفض كذلك للجشع والسيطرة والاستفراد بالقرارات، والاهتمام بكل ما هو اقتصادي ومصالح القوى الكبرى حتى الفوز بولاية جديدة، السخط عليه كذلك كرئيس في تدبير مكافحة وباء كورونا الذي فتك بنسبة كبيرة من الأمريكيين، ولم يتخذ الاحتياطات اللازمة على غرار دول أخرى، بل ظل يكيل الاتهامات للصين، ويتنصل من التزاماته، ورغبته في التخلي عن الشراكة مع دول الإتحاد الأوروبي بالتعنت تارة، والرغبة في تفكيك هذا الإتحاد تارة أخرى، وتحريض بعض دوله للانسحاب منه . سياسته الشعبوية وضبابية خطابه واستفراده بالقرار، ومحاربته للإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، يزيد في تدني شعبيته، ورغبة الجماهير الواسعة في تصفيته أو إزالته عن الحكم بطرق دستورية، ومن ثمة الدعوة لانتخابات جديدة، كلمة "ارحل" أصبحت عالمية التداول، وعندما يستخدم العنف المفرط ضد المتظاهرين، لن يزيد العنف إلا شرارة في المواجهة، وترتفع أصوات التنديد، وتزيد الأوضاع قتامة في اللجوء إلى حلول تعيد الأوضاع إلى طبيعتها من خلال تحقيق العدالة والإنصاف، أما التهم الموجهة للقوى اليسارية الراديكالية ليست سوى ذر الرماد في العيون، وصب الزيت على النار، وتغليف الأزمة بأسباب واهية. الشرطة في صدها للمتظاهرين بعنف، شاهد العالم تجاوزات، بل كان على الأمريكي أن يأخذ العبرة من "الربيع العربي"، الذي كان سلميا في البداية، وتحول لربيع دموي تدخلت فيه القوى العالمية، وانحرف عن مساره الحقيقي، اليمين المتطرف في أمريكا يتحمل مسؤولية السياسات الخاطئة في العالم، منطق القيم التي يدافع عنها اليمين المتطرف من جورج بوش الابن والمحافظون الجدد إلى دونالد ترامب، هي باعتقادي عودة للوراء، للقيم البورجوازية والطبقة الارستقراطية التي تشكلت من الوافدين الجدد نحو العالم الجديد، لأسلافهم القدماء، إنها نوع الفاشية المغلفة بخطاب ديمقراطي ومؤسسات، في عمق هذا الخطاب إما أن تكون معنا أو ضدنا ، في محاربة القوى المتربصة بالولايات المتحدةالأمريكية وثقافتها المهددة بالقوميات الداخلية، ومهددة بالبعيد من الحركات الأصولية والحضارات الأخرى بصفة عامة، أفكار قاتلة، تبث التوجس والاحتياط من الآخر، ومتناقضة وسياسة العولمة والانفتاح، تأملات في المستقبل البعيد يعني أن القيم الأمريكية مهددة في صميمها ، فكان على الرجل الأبيض أن يترك الأفارقة في أوطانهم الأصلية ، لا يرغمونهم بالقوة على العمل في مزارع القطن والسكك الحديدية، لم يكن الإفريقي يعاني من مركب نقص، كان متناغما مع ثقافته المحلية، وسعيدا في أرضه وطبيعته، حتى جاءت تجارة النخاسة فأصبح عبدا في بلاد بعيدة، لكن بعد نضالهم الطويل أصبحوا شركاء في الوطن، وعندما يقال في الإعلام أن جورج فلويد أمريكي من أصل إفريقي، هذا بالفعل نوع من العنصرية والتمييز، الذي لا يقال لكل من جاء من بريطانيا أو ايطاليا وفرنسا، وسكن في كندا والولايات المتحدة، بموجب المولد والمواطنة اختفى الأصل، وأصبح الناس كلهم مواطنون ينتمون لهذا البلد . والحركات الاحتجاجية في العالم في إطار موجه التغيير، لا دخل للعوامل التاريخية في إشعالها، ولا هي تراكمات الماضي البعيد بنسبة عالية، والدليل من الربيع الأمريكي الذي تطالب فيه الجماهير برحيل ترامب وطاقمه السياسي، لا بديل عن التغيير في السياسات الأمريكية، السود يعانون من البطالة بنسبة 24.3% من مجموع السكان ، والفروق الاقتصادية في تزايد مستمر، وحفنة من الشركات تسيطر على الاقتصاد الأمريكي، الرئيس ترامب فريد في سياسته الميالة للرضا والتصالح مع الأطراف القريبة من سياسته، والصراع وعدم الرضا عن الأطراف المناوئة، رئيس يجيد حروب الكر والفر، والكيل للآخر، صراحته تقترب من حدود الحرب والتصفية، وعبارة عن وقاحة خارج نطاق الدبلوماسية، اعتبر نفسه مخلص لأمريكا عبر إعادتها للريادة وزعامة العالم، وقوله بتوحيد أمريكا، لكي يعيش شعبها معا في اتحاد، ويستشهد بالكتاب المقدس، ويغلب على خطابه السياسي الحماسة والتسويق لنفسه، وبدل أن يختار الرئيس بالقرب منه رجاء أكفاء من أهل الخبرة والعلم في مجال السياسة والاقتصاد، اختارت عواطفه أهل الثقة، وممن يحضون بالرضا، ومن خرج عن خطوطه كانت نهايته الاستقالة. عندما تنادي الجماهير بكلمة "ارحل"، فالرحيل هنا للرئيس وأعوانه في الحكم، هنا يجب أن تعود أمريكا لطبيعتها الدستورية، للشعب وليس للقوى المهيمنة على القرار، ولا تعني أن الحركات اليسارية المناهضة للفاشية والنازية والديكتاتورية من الأسباب التي أشعلت غضب الملايين، بل السياسة الارتجالية والعنف المفرط للقوى الأمنية، وعدم العناية بالعنصر البشري من الأقليات، والتنصل من المبادئ التي قامت عليها سياسة الإصلاح من أسباب الغضب الشعبي، رجل الأعمال وهيمنة نخبة معينة بأهوائها وخواطرها من الأسباب التي ساهمت في تصاعد موجة الاحتجاج في أمريكا، ومن هنا يبدأ الربيع الأمريكي لإعادة تصحيح الاختلال في السياسة، والعودة للديمقراطية وتحقيق المواطنة الكاملة، التي تلغي اللون والجنس والأصل وتعلي من الحق والواجب والقانون والمؤسسات. إضافة لإلزام أمريكا بالكف عن العداء للآخر في سياستها الخارجية، والعودة بالدول للقانون الدولي من خلال هيئة الأممالمتحدة .