في الوقت الذي تحارب مختلف حكومات العالم لمواجهة تداعيات "فيروس كورونا المستجد"، و تحاول توظيف كل الإجراءات و الموارد، لحماية الأرواح و محاصرة الوباء، والتحكم في تأثيراته الصحية و الاقتصادية و الاجتماعية ، مع حرص الحكومات الديمقراطية على كسب ود شعوبها و تخفيف معاناتهم، و الاعتراف بالخطأ و القصور إذا تبين ذلك، و المكاشفة و المصارحة و القبول بالنقد و المعارضة، لأنها تدرك أن زمن المحاسبة و المساءلة قادم بعد محاصرة المرض و عودة الحياة لطبيعتها.. و رأينا كيف عارضت الصحافة الأمريكية قرارات الرئيس الأمريكي، عندما قرر وقف مساهمة بلاده في تمويل "منظمة الصحة العالمية"، و كيف إنتقدت موقفه من حقن المرضى بالمطهرات و تعريضهم للأشعة ، و بينوا للشعب الأمريكي و للرأي العام الدولي جهل الرجل و إستهتاره بأرواح المرضى و بالعلم و أهله، و لم نرى أن الرجل أقدم على تكميم الأفواه أو إعتقال الصحفيين و إغلاق القنوات التلفزية و الإذاعية و شبكات التواصل الاجتماعي المعارضة له و الساخرة منه.. و حتى إن تمنى فعل ذلك، فلن يستطيع لأن الدستور و القوانين الأمريكية تقدس حرية الرأي و التعبير، و تحمي حرية الصحافة و الإعلام و تعتبرها سلطة لا يمكن المساس بها.. لكن الصورة مغايرة في عالمنا العربي فجائحة كورونا شكلت فرصة سانحة لبعض الأنظمة للعودة الى الدولة البوليسية، وتعزيز القبضة الأمنية و تغليب منطق القمع و التهديد بالسجن و الغرامات المالية و الاعتقال، لإسكات و إرهاب الصوت المعارض و كبث حرية الرأي و التعبير، و هذا القاسم المشترك بين أغلب البلاد العربية، و هو السبب الرئيس-بنظرنا- في عجزها عن إدارة أزمة كورونا و تبعاتها القادمة، و النماذج التي نجحت في محاصرة تفشي الوباء بعالمنا العربي هي في الأصل بلدانا تحترم شعوبها و تعترف بحرية الرأي و التعبير،و من ذلك تجربة لبنان و تونس و الأردن ،و هي تجارب تدعو إلى الإعجاب، فبالرغم من قلة الموارد المالية المتاحة ، إلا أن كفاءة الحكومات لعبت دورا بالغ الأهمية في تحقيق نتائج إيجابية، لأن هذه الحكومات إعتمدت أسلوب المشاركة و المكاشفة في صياغة التدابير الاحترازية وفي فرض الحجر الصحي..لكن الصورة في بلدان عربية أخرى مغايرة بشكل كامل، ففي ظل هذه الظروف الصعبة و التي لا يعلم أحد متى ستنتهي، و لا يستطيع أحد التكهن بمخرجاتها ، اختارت أسلوبا مغايرا يقوم على تعزيز القبضة الأمنية، وتغليب منطق القمع و القوة على منطق الحوار و المشاركة، و استغلال ظروف الطوارئ لتمرير قوانين و تدابير طويلة المدى و يسري مفعولها لما بعد نهاية الطوارئ الصحية، و التي تظل، بنظر فقهاء القانون الدستوري و علماء السياسة والقانون العام، فترة إستثنائية ينبغي إدارتها بقررات أنية و محدودة التأثير في المستقبل ، خاصة في جانب المساس بالحريات المدنية و السياسية و حقوق الأفراد و الجماعات.. و قد تناول القانون الدولي حالة الطوارئ من خلال العهد الدولي للحريات المدنية والسياسية، الصادر عام 1966، إذ نص على ألا تكون التدابير المتخذة متعارضة مع التزامات الدولة المعنية بموجب القانون الدولي، كما حذَّر من أن تأخذ إجراءات الطوارئ نزعة تميزية قائمة على العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين، و ينبغي أيضا إعلان حالة الطوارئ في ضوءِ تقدير دقيق وموضوعي للأحداث بحيث تُناسب التدابير المتخذة الوضعية القائمة دون مبالغة. و ينبغي ألا تكون حالة الطوارئ ، في أي حال من الأحوال، ذريعة لحرمان الأفراد من حقوقهم الأساسية مثل الحق في الحياة، والحق في التفكير والاعتقاد كما يجب ألا تكون ذريعة لترخيص الممارسات غير الإنسانية أو الحاطة بالكرامة الإنسانية…و حالة الطوارئ التي تم إعلانها في معظم بلدان العالم لها خاصية و هي أنها طوارئ صحية الغاية منها فرض الحجر الصحي على الناس، و إلزامهم بالبقاء قدر الامكان ببيوتهم، و عند إنتهاء فترة الطوارئ الصحية ينبغي عودة الأمور إلى مجراها الطبيعي و بالتبعية إزالة كل التدابير و التشريعات الاستثنائية… كما أن هذا الاسلوب فيه مجانبة للصواب و إنحراف عن الاسلوب الأمثل و الأفضل لإدارة الأزمة و الحد من تداعياتها، خاصة و أن الأخطر و الأصعب لم يأتي بعد، فالخراب الاقتصادي الذي سينتجه الوباء أخطر و أكبر من الخسائر في الأرواح، و الدول الكبرى و الحكومات التي تحترم شعوبها تعد العدة لمواجهة القادم من الأيام، وبدأت بتعديل استراتيجياتها و سياساتها العمومية لتواكب التحولات المستقبلية، ذلك أن مجموعة من المسلمات التي عرفناها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في طريقها للتغيير ، و الأسس التي بني عليها النظام العالمي الاقتصادي، و المالي، و التجاري في طريقها للانهيار، و حرية التجارة و الاستثمار و حركة رؤوس الاموال سوف تصبح من الماضي، مع عودة الدولة الوطنية و التركيز على التنمية المحلية، و التراجع التدريجي عن عقيدة السوق المتحرر من القيود… و في ظل هذه التحولات الجذرية، نجد أن الحكومة المغربية تحاول إستغلال هذه الجائحة لتمرير قوانين و تشريعات لن تخدم مستقبل البلاد و العباد، و لن تساعد في تجاوز أثار الجائحة على الاقتصاد و المجتمع المغربي، و تحاول العودة بالبلاد الى سنوات الرصاص و تكميم الأفواه وقمع الحريات و كبت حرية الرأي و التعبير في مخالفة صريحة لمقتضيات الدستور المغربي الذي تم إقراره بعد حراك 20 فبراير 2011 ، و مناسبة هذا الحديث مصادقة المجلس الحكومي المنعقد يوم الخميس 19 مارس 2020 على مشروع القانون 22.20 المتعلق باستعمال "شبكات التواصل الإجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة". و المثير للإنتباه أن المصادقة على المشروع تمت في الأيام الأولى من فرض الحجر الصحي و إعلان حالة الطوارئ الصحية، لذلك فالمصادقة على مشروع القانون لم تحظى باهتمام من قبل الرأي العام الوطني في حينه، و السبب حالة الهلع من تفشي الوباء، و توجه انتباه الجميع نحو متابعة إحصائيات المصابين بالفيروس و عدد الوفيات في المغرب و غيره من البلدان … و بالعودة إلى البلاغ الصحفي الذي أصدره الناطق الرسمي باسم الحكومة بعد اجتماع المجلس الحكومي في نفس التاريخ ، نلاحظ أن الحكومة إعتمدت أسلوب التعتيم و عدم إعطاء تفاصيل واضحة و دقيقة عن مضامين مشروع القانون 22.20، إذ تم الحرص على ربط مشروع القانون ب"التدابير القانونية والمؤسساتية لمكافحة الأنماط المستجدة من الجريمة الإلكترونية"، كما تم استغلال الإجماع الوطني على الإنخراط في الإجراءات المتخذة لمواجهة كورونا، وجعلت المصادقة على مشروع القانون تبدو متناغمة مع هذا السياق، وذلك ما تعبر عنه الفقرة الأخيرة الواردة في البلاغ الصحفي السالف ذكر:"وهو بذلك يستهدف سد الفراغ التشريعي الذي تعاني منه المنظومة القانونية الوطنية لردع كافة السلوكات المرتكبة عبر شبكات التواصل الإجتماعي والشبكات المماثلة، من قبيل نشر الأخبار الزائفة وبعض السلوكات الإجرامية الماسة بشرف واعتبار الأشخاص أو القاصرين، خاصة في مثل هذه الظرفية التي يعرفها العالم، وتعيشها بلادنا، والمرتبطة بتفشي فيروس كورونا " كوفيد 19".. وهو تراجع مخزي عن حرية الرأي والتعبير، فالمغرب بالرغم من النواقص التي تعتريه، إلا أننا لا ننكر أن هناك هامش واسع من حرية التعبير مقارنة بباقي البلدان العربية ولا سيما بلدان الخليج، فكاتب المقال لطالما عبر عن رأي معارض و لم يتعرض يوما للمضايقة ، بل إنه إمتلك مؤسسة إعلامية مالكة لقناة فضائية و صحف مكتوبة و إلكترونية و أدارها بنفسه منذ 2011 ، نعم عانينا من صعوبات إدارية و مالية، و إشكالات قانونية وفراغ في بعض النصوص القانونية المنظمة للبث الفضائي، و لكن لا يمكننا الادعاء بأننا تعرضنا لمضايقات أمنية ، على الأقل بشكل مباشر.. نعم نحن ضد ترويج الإشاعات و الأخبار الزائفة، وتعلمنا على أيدي أساتذتنا أن مهنة الصحافة تقتضي التأكد من الخبر و تحري الصدق قبل النشر،لكن إذا كان الخبر صحيحا فلا يهم حينئد موقف السلطة، فمهمة الصحافة الحرة و النزيهة هو خدمة المجتمع و تنوير الرأي العام، و ليس التطبيل للحكام أو تلميع صورة النظام، أو السكوت عن الفساد و السياسات العمومية الخاطئة، و لسنا من أنصار شهادة الزور، فقول الحق واجب ديني و أخلاقي ووطني، و الصحفي الذي يعجز عن قول الحق فعليه التواري إلى الظل بدلا من تزييف الحقائق.. و على صناع القرار الأمني و السياسي بالدولة المغربية، أن يدركوا جيدا بأن نجاح البلاد في تجاوز تداعيات الربيع العربي و احتجاجات 20فبراير 2011 ، لم يتحقق بالاعتماد على الفعالية الأمنية الأمنية أو السياسات القمعية ، فالأمن في الرباط، لم يمس المتظاهرين بسوء طيلة فترة الاحتجاجات، و قد كنا في الصفوف الأمامية، لكن البلاد خرجت من الأزمة بفعل إرادة المغاربة، ووعيهم بخصوصية التجربة المغربية، و كذلك مرونة العاهل المغربي في حينه، و الذي استجاب لنداء الشعب، و غير قواعد اللعبة بما يتماشى والمعطيات الجديدة، ومر المغرب من هذه التجربة وفق مبدأ "رابح –رابح" فالنظام ضمن الاستقرار و الشعب تنفس الحرية، لكن ما حدث من بعد هو محاولة للانقلاب على إنجازات 20 فبراير الحقوقية و السياسية، و على التزامات العاهل المغربي في خطاب 9 مارس، وما كرسه الدستور المغربي من عقد اجتماعي جديد عنوانه الأكبر احترام إرادة الشعب و تكريس الحرية و الكرامة.. لا نريد أن يتم استغلال أزمة وباء كورونا، و هي محنة شديدة ترهق كاهل ملايين المغاربة وتضر بحاضرهم و مستقبلهم، و سياسة تصفية الحسابات تضر بالدولة و المجتمع، فمحاولة الانتقام من نشطاء التواصل الاجتماعي الذين فجروا حملة مقاطعة بعض المنتجات الاساسية احتجاجا على استغلال المستهلكين و رفض الجشع، و استغلال السلطة لتحقيق مكاسب اقتصادية عملا بمبدأ زواج السلطان بالتجارة، و كذلك الانتقام من نشطاء حراك الريف و جرادة و حراك 20 فبراير، كل ذلك لم و لن يخدم الاستقرار السياسي و السلم الاجتماعي الذي أصبح أكثر هشاشة، بفعل فشل السياسات التنموية المتبعة، و أيضا نتيجة للتراجع عن الكثير من الثوابت التي تم إقرارها منذ حكومة التناوب التوافقي التي ترأسها "عبد الرحمان اليوسفي" ، و أيضا التراجع عن توصيات هيئة "الانصاف و المصالحة" و غيرها من الانجازات الحقوقية التي تم إقرارها للقطيعة مع سنوات الرصاص السيئة الذكر… انتقاد السياسات العمومية لا ينبغي أن ينظر إليه على أنه جريمة، و إنما ظاهرة صحية و تدافع إيجابي يقود حتما إلى الأفضل، لأنه يكشف الاختلالات و الانحرافات العمومية، و يدفع باتجاه الاصلاح و الانتقال السلس للسلطة، و تحقيق التغيير الأمن .. فدوام الحال من المحال فاعتقال الأصوات المنادية بالتغيير و الإصلاح، و الرمي بهم في غياهب السجون و تعريضهم للإهانة، لم يفرز إلا خصام و عداوة تنخر جسد المجتمع المغرب، و يصعب تحمل تكاليفها ، خاصة في ظل جائحة تحرق الأخضر و اليابس.. على الدولة المغربية في ظل هذه الظروف التي تهدد الاقتصاد و الاستقرار السياسي و الأمن الاجتماعي، اتخاذ إجراءات و تدابير تعزز روح المواطنة و التضامن و احترام حرية الناس و تقديس حقوقهم، فالإصلاحات السياسية و الحقوقية في هذه المرحلة ضرورة حتمية للخروج من عنق الزجاجة بأقل التكاليف..و من ذلك أيضا طي تبعات ملف حراك الريف بإطلاق سراح كل النشطاء و معتقلي الرأي، و في مقدمتهم "ناصر الزفزافي" و غيره من المعتقلين، فالرجوع إلى الحق و الاعتراف بالخطأ و الاعتذار عنه فضيلة، أما الاستمرار في الخطأ و نهج سياسة الاستعلاء و الاستكبار، وصم الأذان عن النصيحة بالحسنى و إصلاح ذات البين، فلن يقود إلا إلى دورة من الأزمات .. الظروف الراهنة تتطلب القطيعة مع ممارسات الماضي و الانفصال عن عقلية القمع و الاستبداد، و الانتقام من المعارضين و المصلحين، و المتضررين و ما أكثرهم قبل و بعد جائحة كورونا، فإذا عجزنا عن مواجهة تأثيرات الجائحة اقتصاديا و صحيا و اجتماعيا، فأضعف الإيمان أن نحترم حرية الناس في التعبير و في النقد و الاحتجاج و إحترام الرأي المعارض و التوقف عن سياسات تكميم الأفواه…حفظ الله بلداننا و شعوبنا من كل سوء..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق أسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة