خلال مدة أربعة أشهر، قطعت المسافة الفاصلة بين مراكش ومحاميد الغزلان، ثمان مرات على الأقل. كنت كلما وصلت إلى الممر الجبلي "تشكا"، تتصاعد إلى أذني داخل الحافلة آهات سخط وغضب المسافرين وأنا واحد منهم، حيال هذه الجغرافية الوعرة والمهملة التي تكشف بدائية سياسات هذا البلد الذي يضمنا، ومفارقة كل أحاديث حداثة الصالونات المكيفة الرباطية نسبة إلى الرباط، قياسا لحقيقة واقع ينخره الشقاء والبؤس من كل حدب وصوب وبمختلف الصيغ والأشكال. قلت أسمع شكاوي وتأوهات الناس، وهم يبدون تحسرهم بشتى اللغات والإيماءات . هناك من دعا بقوة إلى تشكيل حكومة من اليابانيين والكوريين أو الصينيين، حتى يحلوا سواء مشكل مسلك تشكا بل جل مشاكلنا الحياتية الأخرى المتفاقمة. آخرون، يسخرون بكل جوارحهم من فكرة القطار السريع الرابط بين الدارالبيضاء وطنجة، بينما مناطق واسعة من المغرب لازالت تلتجئ إلى الحمير والبغال لحل مشكلة النقل. البعض الثالث، اعتبر أن هذا الوضع لا ينزاح عن سياسة المغرب غير النافع إلخ. في المرة، ماقبل الأخيرة، أذكر بأن أحد المرشدين السياحيين، كان يقسم بأغلظ الأيمان أنه خلال آخر زيارة له إلى اليابان، وجدهم قد تخلصوا نهائيا من كارثة تسونامي بكل هالتها وقساوتها .بمعنى، ورثة الساموراي لا يتوقفون أبدا عن الاشتغال كل ثانية وبصدق. قبل ثلاث ساعات من وقوع الحادثة، كنت على متن الحافلة في نفس الطريق.لم تكن هناك لا مراقبة ولا تفتيش ولا ضبط ولا أي شيء. كل سائق حافلة يصنع ما يبدو له،فالرشوة تفعل مفعولها السحري في الجن الأحمر. صبيحة الغد، وأنا أتناول الفطور في إحدى مقاهي زاكورة، سمعت الناس يتداولون خبرا فجائعيا مفاده أن حافلة انقلبت ليلة أمس من أعلى مرتفعات جبال تشكا. انتابني فزع شديد، وأحسست بعرق ساخن يتصبب على جسدي، بل تجمد الدم في شراييني لأني تخيلت حجم الكارثة . على متن سيارة تاكسي من النوع المنقرض، واصلت طريقي إلى جماعة"تاكونيت" البعيدة بستين كيلومتر عن مدينة زاكورة. شرع السائق في تأمل قضية الساعة منتقدا بأعلى حبال حنجرته "السوشارج" بحذف الوار يقصد "السورشارج" أي الترجمة العربية للتكدس البشري غير القانوني على طريقة قطعان الأغنام، بينما الحافلة عتيقة جدا ولا يجوز أصلا للسلطات المختصة السماح لمثل هاته البلدوزرات ، أن تطوي في جوفها بشرا. ثم، استطرد واللعاب يتطاير من فمه، الذي لم يعد يظهر غير أسنان متباعدة، وهو يصب جام غضبه على حالة الطرقات والإهمال والفوضى وغياب الإحساس بالمسؤولية وجشع أصحاب النقل، إلخ ، مجملا مداخلته بالترحم على القتلى المساكين، يزم على شفتيه بامتعاض لا سيما وأن أبناء من منطقته قد رحلوا مع الراحلين. بعد لحظة صمت، ونحن نردد صدى كلامه بين ثنايا جماجمنا، وننصت في نفس الوقت، إلى الهدير المدفعي لمحرك السيارة القروسطية، وهي تنط بما تبقى لها من فعل الزمان الغادر، فوق حفر وخنادق طريق "تاكونيت" الذي لايزيد سمك عرضه عن مابين الإنسان وحبل الوريد. لم يكسر أفق تراتيلنا الجنائزية، إلا هذا الاستفسار الصادر عن شيخ كان يجلس بجانبي: (( كيف سينقذون الضحايا؟والمنطقة جبلية،ربما يستعملون "لاكوبتير" يقصد "الهليكوبتر")) .((قاطعه السائق،وهو لم يكمل بعد كلامه: الله يهديك أسيدنا الفقيه،أنت تحلم،نحن لسنا بأوروبيين ولا أبناء علّيين. نحن فقط مجرد أوباش من جحور العقارب والثعابين. لاكوبتر.ترررر!!! ))ورسم على ثغره ضحكة ساخرة. من يتحمل، إذن مسؤولية ما وقع؟ فميكيافلية اللعبة السياسة في المغرب، تجعل دائما لعبة المسئول مؤجلة ومتداخلة. الجميع يلقي بكرة النار في حجر الجميع والكل يختفي وراء الكل. بحيث تبدو الخلطة عبثية بكل المقاييس، ونتيه في سفسطائية أسبقية الدجاجة أم البيضة. لنفترض أن أبسط موقف آدمي يجدر بالحكومة الحالية اتخاذه، احتراما لروح الضحايا، أن تقدم استقالتها.لكن حتى مع هذا،فالأمر سيان ، تذهب حكومة ؟؟ ترتقي حكومة؟؟؟ الأوضاع ذاتها لا تزداد إلا سوءا وترديا، ليس "العصابيون " المرضى من يجزم بذلك بل الخطاب الرسمي ذاته :التعليم،القضاء،الصحة، الإدارة،الاستثمار ،الخ. يعني انتفاء التأسيسات الجوهرية لمسار التقدم والتطور. أواخر التسعينات، جاء الإعلان من قبل الدولة نفسها عن السكتة القلبية كتتويج صريح للسياسات العمومية التي اتبعها المغرب منذ الاستقلال. ولعلاج السكتة، كانت دورة الحقن والنفخ بالدوباج الإعلامي الزائف ، ومايتولد عن ذلك من ثقافات التهريج والتسطيح والتبضيع والتضبيع. ربما، لن تعلن الحكومة "الملتحية"حتى عن أضعف إيمانها أي حالة الحداد؟لأن "القدر الإلهي" قال كلمته في حق جثت تشكا ، ولكل أجل كتاب، بالتالي من أتاه ملكوت الموت، فلن يفلت بجلده ولو كان في بطن الحوت. لذا، وانسجاما مع منطق"عفا الله عما سلف"و "أنتم المكتنزون ونحن اللاحقون" فأصحاب الحافلة الجحيمية "زاكورة-مراكش"،لاخوف عليهم ولاهم يحزنون، وقد انتقلوا إلى جنة الخلد شهداء مادامت قد غمرتهم دماء أجسادهم. حينما قال الإمام الغزالي كي يحسم مسألة القدر"الإنسان مخير فيما يعلم، مسير فيما لايعلم "". فقد أجاب بشكل من الأوجه عن ماوقع، موضحا عناصر الجريمة وأطرافها ، وأن مسؤولية الاختيار البشري ثابتة. غير أن هؤلاء المنكوبين لم يختاروا وضعية الدواب التي وجدوا أنفسهم عليها، بينما أصحاب المهام والتدبير أرادوا لهم قصدا، ومع سبق الإصرار هذا المصير الكانيبالي. كلنا تافهون، بقدر نذالتنا. فمتى ننتهي، من حكايات ليالي ألف ليلة وليلة، لتدق حقا ساعة العمل والجد.